ك »إيلوار« و»نيرودا« و»لوركا« و»بوشكين«، »جان فيرا« يبقى رمزًا للأغنية المناضلة التي لا تذبل والكلمة النافذة والشعر قبل الصخب، غنّى العمال والثورة والاضطهاد والمهمّشين كان سريع الغضب عندما يشاهد التفاهة ويفصح برأيه ويحرّر الرسائل ضدّ الصحف الكاذبة. كان يغنّي للعمّال في أعيادهم وينزل الى المظاهرات ويصدع برأيه غير آبه بحبائل الوسط الفنيّ العفن الذي لم يسقط فيه حتى انه انقطع عن الغناء على المسارح منذ عام 1978، بيد أنه واصل في التأليف والتلحين وتسجيل الأغنيات وبقي الفنّان الأخير من الجيل العظيم للأغنية الفرنسية أبناء »شارل تريني« وهم الفنّانون المغنّون / الشعراء »جورج براسنس« (Georges Brassens) وجاك برال ((Jaeque Brel و»ليو فرّي« (Léo Ferret) . للشعراء مغنّون كسرُوا الحواجز وتخطوا المسلمات الثابتة. وإن كان »جان فيرّا« (Jean Ferrat) شاعرا متكاملا فإنّه غنّى لأحد أكبر شعراء الحريّة وكان وفيّا له أعني »لويس آراغون« الذي كان يعتبر شاعر العمّال والتمرّد. كان يغني دومًا في حفلات »الكنفدرالية العامّة للعمّال« (CGT) علاوة على حضوره الدؤوب في حفل جريدة »الهومانتي« (L'Humanité). كلمات يستفيها من حديث الناس، من المعامل وأوساط الفلاحين، كلمات الكادحين ومصائب التاريخ. ❊ إبن الشعب ولد »جان فيرّا« عام 1930 في مدينة »فرساي« ليست »فرساي« البورجوازية والاستقراطية بل في أسرة متواضعة ذات أربع أبناء، أبوه جواهري متواضع وأمه بائعة ورد، لم تطأ قدماه »الأوبرا«، ولا وجود لحاكي لقراءة الأسطوانات في منزلهم بل مجرّد »راديو« ليستمع الى حفلات الأحد مساء وأمّه تغنّي له في البيت. وأثناء الحرب العالميّة الثانيّة عندما كان عمره 15 سنة نقل أبوه الى معتقلات النّازيّة التي لم يعد منها. أبوه كان يهوديّا وأمّه مسيحيّة، غادر الشاب المراهق المعهد وشرع في دراسة الكيمياء ليغادرها أيضا ويتفرغ للمسرح والغناء والعزف على »الڤيثارة«. اِسمه الحقيقي »جان تننبوم«، غيره »بجان لاروس« ليحاول اختراق عالم الغناء والعزف دون جدوى. وكانت بدايته الحقيقية عندما لحّن رائعه »لويس آراغون« »عيون الزا« الشهيرة والكل يعلم أنّ شيئا عربيّا في آراغون لأنّ غنائيات آراغون عن »الزا« هي وحي من مجنون ليلى ومن أجواء الأندلس التي كان آراغون يعشقها كما عشق هو و»جان فيرا« أشعار ذلك الاندلسي النبيل »غابريال غارسيا لورك« وكان »أندري كلافو« المغني المشهور بأغاني الحبّ آنذاك (مرادف عبد الحليم حافظ عندنا) قد غنّى »عيون الزا«. وبعدها غنّى في »الكباريهات« لمدّة سبع سنوات يقول عنها »هي سبع سنوات لا تساوي شيئا في حياة الإنسان، لكن تبدو طويلة عندما تكدح حتى تؤمن قوتك اليومي«. وعندما يلتقي بالناشر »جرار مايس« الذي لن يغادره طوال حياته اذ عرف »جان فيرّا« بالوفاء الكبير، وفاء لفرقته، وفاء لزوجته وفاء لحزبه وفاء لكلمته وفاء لجمهوره وهكذا غنّى على الأثير لأول مرّة عام 1960 رائعته بنيّتي التي غناها كل الفرنسيين من أبناء الشعب والتي تقول: »بُنيّتي لا تلعب دور النجيمات ولا تضع على عينيها نظّارات شمسيّة لا تقف أمام عدسات المجلات انها عاملة بالمعامل في ضاحية كريتاي« وهي الأغنية البرنامج التي تلخص ديدن هذا الفنّان الجميل العبقري والوفيّ: انها ريح الزمن كما يستنشقها البسطاء، وغضاضة العواطف، ورفض الأحلام الزّائغة والمال السهل والشهرة الزّائفة. ❊ حصار الصهيونية لفنّان الموضوعيّة وسيبدأ حصار جان فيرّا عام 1968 عندما صدرت اسطوانته »ليالي وضباب« وهو كذلك عنوان فيلم مشهور ل »آلان روني« غير أنّ الأغنية لم تعجب اليهود والصهاينة عندما قال فيها: »كانوا عشرين، مائة أو آلاف عارين ونحاف في عربات كدّسوا بأظافرهم كانت الليالي تمزق« ثم يردف: »من بينهم من يعبد يسوع ويحيى أو فيسّنو ومنهم من لا يصلّي لا يهمّ أي الاه عندما كانوا يرفضون الانبطاح« هاجت الأوساط اليهودية لاحتكارها مفهوم »الهولوكوست« وردّ عليهم »جان فيرّا« بحدّة وسيصبح عام 1964 فنانا شهيرا بعد رائعته »الجبل« التي يغنيها كل صغير وكبير وأعيد طبع اسطوانتها لتوزع في المغازات الشعبية ويواصل ليغني الحرية والعدالة والأخوة منتميا الى الحزب الشيوعي دون أن يحمل بطاقة انخراط ويكون مع العمّال في كل محنهم. ❊ وفي عام 1967 يسافر الى »كوبا« ويرجع منها بشنباته التي عرف بها وأغنيته »كوبا كوبا سي« التي كانت تغنّى في أحداث 1968 ، غير ان مواقفه كانت واضحة ضدّ الاضطهاد في الاتحاد السوفياتي مثل آراغون وخاصة بعد »ربيع براغ«. وكان كذلك يمجّ أقصى اليسار عندما غنّى في »بوبينو« أثناء اضراب كبير اغنيته »يا صغار التفّه« متجها الى المتطرفين مع أنّه في آخر حياته وان كان يدعم الحزب الشيوعي يدعم أيضا »برنسونو« ساعي البريد المتمرّد وعندما يلتقي عام 1971 »بلويس آراغون« سيبيع في أسبوع واحد مليون إسطوانة من رائعته »فيرّا يغنّي أراغون« وخاصة »لنحبّ حتى نفقد مداركنا« ومعها الأرجوزة الجميلة في عيد المرأة »المرأة مستقبل الرجل«. ❊ »فيرّا« جيلنا... على المسرح البلدي أحس اليوم بالحسرة والنخوة إذ كنت من بين الشباب الباحث عن الحريّة تلك الليلة الليلاء عام 1968 عندما غصّ المسرح البلدي بتونس وكادت المقاعد تسقط عندما صرّح بأغنيته الشهيرة »كوبا كوبا سي« عندما كانت الامبريالية في أوج غطرستها وعندما غنّى ل »سايغون« و»هوشي منه« وشعب الفيتنام ليعود ربّما من تونس بسحر افريقيا ويكتب رائعته »أنا لي افريقيا« والأغنية التي تعكس التزامه عام2000 ، عندما كان من مؤسسي المنسقيّة العالمية لثقافة عدم العنف والسلام والتسامح، حيث ورد بمقطع في أغنية افريقيا: »رائحة الشاي والياسمين تعبق في متناول اليدين« ربّما استقى ذلك من تونس. سيبقى »جان فيرا« في ذاكرة جيلنا ذلك الرائع الذي رفض ان يغني او يذهب الى إسرائيل... وعلى القارئ ان ينفر على مواقع اخبار فلسطين في الغرب ليجد الاحتفاء بالرجل ومواقع الصهيونية التي تهاجمه. ذلك الذي غنّى ضدّ أصحاب الفنّ للفن: »أغنّي لا لقتل الوقت ربّما يغضبكم أنّي أرسم الحقيقة أنا حرّ ولن أعتذر إليكم لا أغنّي لقتل الوقت« إليك كل المجد، وأنت القائل ل »فريديريكو غارسيا لوركا«: »هاهي اكثر من عشرين سنة والليل يختم على غرناطة« وداعا يا عامل الفنون وفنان العمّال.