ألبوم الأغنية التونسية يحوي كمّا من صور المبدعين التي لفها النسيان وطمس معالمها الغبار فكان التهميش حظها... والإقصاء نصيبها... فمن التعسف أن يبدل حجاب الإهمال والجهود والنكران على من كانوا بالأمس نجوما تضيء الساحة الفنية وأثروها بإبداعاتهم وروائعهم الجميلة... ومن الظلم أيضا أن يتجاهل البعض من منشطينا لسبب أو دونه أولئك الذين ودعناهم الوداع الأخير وبكينا فراقهم... وسرنا خلف جنائزهم والأسى يمزق القلوب والحسرة تدمي الجوارح فأين هو العرفان الذي ما فتئ يتبجح به منشطو البرامج والمنوعات الإذاعية والتلفزية. ...وأنا في طريقي إلى مدينة منزل تميم مرت بمخيلتي فجأة صورة الفنان القدير وشحرور الخضراء المرحوم يوسف التميمي فراحت بي الذكرى على الذاكرة لأستحضر ما عانته ابنته الوحيدة السيدة هويدا بعد رحيله مع مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية حيث رفعت ضدها قضية متهمة إياها بالسطو على 8 «بوبينات» من خزينة المؤسسة وطلبت منها بدفع تعويض قيمته مليار من مليماتنا. من هو يوسف التميمي وكيف انطلقت القضية؟ يوسف التميمي أو شحرور الخضراء الذي مرّ على رحيله 27 عاما واحد ممن طالهم النسيان صادف أن التقيناه في العاصمة الفرنسية باريس.. كان مرفوقا ساعتها بعازف القانون المعروف المايسترو حسن القربي... رحل يوسف التميمي فلم نعد نسمع باسمه... ولا بأغانيه الحلوة والخفيفة.. شحرور الخضراء.. هكذا لقبوه.. واليوم قبروه كما قبره الموت.. فإذا كان سيدي علي الرياحي بلبل سيدي بوسعيد الشادي حظي باهتمام كبير ومتزايد من تكريم شأنه شأن البقية كصليحة وعلية والهادي الجويني ومحمد الجموسي وأصبحت أغانيهم لا تغيب عن أي تظاهرة بل أن معظم فنانينا تفننوا بشكل أو بآخر في أداء روائعهم... فمن المؤسف والمؤلم أن نرى إهمالا متعمدا من جيل الأغنية الجديد للراحل يوسف التميمي ومآثره الفنية التي تزيد على 460 أغنية سجلها المرحوم طوال حياته الفنية من أغان عاطفية ووطنية ودينية.. نعم رصيد زاخر وتقصير واضح من جميع الأطراف حتى وسائل الإعلام نفسها.. في حق ابن منزل تميم.. فأين شكري بوزيان وأين الزين الحداد.. ولطفي بوشناق ونور الدين الباجي والشاذلي الحاجي الذين كثيرا ما عودونا بترديد إبداعات القدامى خاصة علي الرياحي ثم أين الدلوعة أمينة فاخت ولطيفة العرفاوي ونوال غشام وسناء السويسي(..) اللواتي كنّ يبحثن عن أغاني «بوفردة» لتقديمها إلى الجمهور... على أنها فن راق يستحق السماع.. أم أن أغاني يوسف التميمي لا تروق لأحد منهم؟ لقد كنا ننتظر أن يقع تكريم مطربنا المتميز ورد الاعتبار له من خلال مهرجان قرطاج... وإذ كنا تعودنا بالمثل القائل «عاش يتمنى في عنبة» كيف مات جابولو عنقود».. فإن المرحوم لم ير عنقودا ولا عرجونا في حياته أو بعد مماته 27 سنة مضت على رحيل الشحرور.. 27 سنة مرت على فقدان صاحب أجمل وأحلى الروائع الغنائية فتغنت معه «ياسمين وفل» و«أنا جيتك يا رمال» و«وقتاش تطل» و«ماجاناش» وغيرها من الطقطوقات التونسية الأصيلة الحلوة بحلاوة صوته بل هي البخور والعسل بشهده الشهي المذاق.. بجمال مدينة منزل تميم التي أنجبته وألقت به بين أجنحة لافايات ليوشح شارع الحرية والكافي شانطا بأحسن الأغاني.... وعوضا أن يتم تكريم عم يوسف ورد الاعتبار إليه كفنان قدم الكثير للأغنية التونسية فوجئت ابنته هويدا بأن مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية تلاحقها قضائيا من أجل القرصنة وسرقة «بوبينات» من خزينتها وأي قرصنة؟ وقد انطلقت هذه القضية عندما لاحظت ابنة المرحوم ركودا في بث أغاني والدها في الإذاعة والتلفزة حيث حاولت بمبادرة شخصية الاتصال بمؤسسة لافايات للسؤال عن تجاهل بث أغاني أبيها رغم وجود «بوبينات» كثيرة في خزينة الإذاعة الغنائية خاصة بيوسف التميمي ولكن دون جدوى إلا أن هويدا لم تستسلم فحاولت مجددا بمبادرة شخصية من خلال «بوبينات» مسجلة تركها والدها لها في المنزل كان يسجلها يوسف التميمي في حياته على نفقته الخاصة في ليبيا.. حيث أرادت تسجيلها على أشرطة كاسيت بعد أن استشارت محامي الشركة كان عدد «البوبينات» ثمانية تتضمن 24 أغنية تم تسجيلها وتوزيعها في الشرق وحصدت نجاحا كبيرا ومعتبرا مما أدخل الفرحة على هويدا بإعادة الروح لأغاني الشحرور... مما أثار حفيظة مؤسسة شارع الحرية التي سارعت بتقديم قضية للحصول على تعويضات من ابنة المرحوم بدعوى أنها سطت على «البوبينات» المذكورة من الخزينة الغنائية بالإذاعة. ماذا لو...؟ ولئن انتهى الصراع بين الداعي والمدعى عليه فقد ظل الفقيد طي النسيان.. خاصة من أصحاب البرامج والمنوعات الذين يدعون دائما بأنهم أولي فضل على عناقيد الأغنية التونسية بتمرير أغانيهم في كل حين.. يا لسخرية الأقدار.. حتى العبقرية لا تصفو من الأكدار... فهل آن الأوان لنفض الغبار عن تاريخ هذا الفنان ويفكر المسؤلون سواء في وزارة الثقافة والمحافظة على التراث أو بمؤسسة الإذاعة والتلفزة برد الاعتبار لصاحب «ياسمين وفل» وهل يسعى البعض من مطربينا المشهود لهم بالصدق في البحث عن ما حركه شحرور الخضراء من إبداعات قيمة وإحيائها من جديد... وهل نسمع يوما بمنشطي الإذاعات والقنوات التلفزية بتخصيص فسحة زمنية ولو قصيرة في برامجهم ومنوعاتهم للحديث عن يوسف التميمي وبث شيئ من أغانيه التي لا يمكن بأية حال تناسيها فمايكل جاكسون ليس أفضل من يوسف التميمي عندما انتفض معظم المنشطين لوفاته وكأنه زعيم له مآثر وطنية خالدة. ولا نظن إطلاقا أن ما يقع بثه يوميا من أغان هابطة وركيكة بركاكة أصحابها هي أجمل وأرقى من «ما جاناش»؟ وفي انتظار أن يتم اعتبار يوسف التميمي قيمة فنية ثابتة حتى يعترف له الجميع بجميل العرفان فإنه باق في ذاكرتنا.. وحيّا يعيش معنا بصورته وفنه..