تتصاعد وتيرة الأحداث في القدس الشريف بعد كشف اسرائيل عن مشروع بناء «كنيس الخراب» وشروعها في برامج استيطانية جديدة لاستكمال تهويد المدينة المقدسة بالنسبة للمسلمين، الأمر الذي دفع الكثير من الأصوات الى المناداة بضرورة إطلاق انتفاضة شعبية ثالثة، فهل الظروف ملائمة لمثل هذه الانتفاضة؟ وما النتائج المحتملة لمثل هذا التحرّك الشعبي؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها «الشروق» على الدكتور محمد الرحموني، أستاذ الحضارة بالجامعة التونسية. حوار: كمال بلهادي دكتور محمد، هل ما يحصل في القدس هذه الأيام ينبئ بإمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة؟ في تقديري، الأمر ممكن، بل إنني أراه ضروريا في مثل هذه الظروف الفلسطينية والاقليمية والدولية. لماذا؟ الجميع يعرف أن القضية الفلسطينية قد دخلت منذ مدة في وضع خطير ربما هو أسوأ وضع تعيشه طوال تاريخها فمن الناحية السياسية تبيّن بالكاشف ان على الفلسطينيين ان ينتظروا طويلا حتى ينجبوا رجلا في مستوى خبرة وتجربة الشهيد عرفات. ومن الناحية العسكرية لم تعد المقاومة الفلسطينية قادرة على انجازات معتبرة ومؤثرة فالعمليات الاستشهادية التي أتت أكلها في التسعينات لم تعد الآن ممكنة بل ضررها أكثر من نفعها و«البركة» تعود في ذلك الى «القاعدة» في العراق وباكستان التي حوّلتها من عمل فدائي نبيل الى عمل اجرامي دموي لا يمكن لأي كان ان يقبل به. كما ان القيام بعمليات فدائية في ظل الحصار وجدار العزل العنصري وحتى الصواريخ لن تكون مجدية فالإعلام الصهيوني والإعلام العربي المتصهين لها بالمرصاد، لتقديم اسرائيل في صورة الضحية ولتقديم المقاومة في صورة منظمات غير مسؤولة ولا تراعي مصالح الشعب الفلسطيني العليا، إذن لم يبق أمام الفلسطينيين سوى اطلاق انتفاضة ثالثة. ولكن الانتفاضة، لابدّ لها من قيادات كي تؤطرها وتقودها؟ هذا صحيح، والأصح، ان اغلب القيادات هي في السجون الاسرائيلية ولكن التجربة التاريخية علّمتنا أن كل انتفاضة او ثورة تفرز آليا قيادتها او بالأحرى تصنع رموزا ولنذكر ان الانتفاضة الثانية قدّمت لنا قيادات كثيرة خلفت جيل الزعامات الأول مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات وخالد مشعل.. نتائج كبيرة ولكن ماهي النتائج التي يمكن ان يحصل عليها الفلسطينيون في حال وقعت هذه الانتفاضة؟ النتائج ستكون ب «الهلبة» كما يقول الأخوة الليبيون، لعل أولها تحريك العملية السياسية وارجاع قضية الشعب الفلسطيني الى صدارة الاهتمام الاعلامي العالمي، وإذا كانت الانتفاضة الأولى قد أفضت الى «أوسلو» بقطع النظر عمّا آلت إليه الأمور بعد ذلك وإذا كانت الانتفاضة الثانية قد أفرزت أساليب نضالية راقية عنوانها الكبير العمليات الاستشهادية وصواريخ القسّام والأقصى ورفعت من قدرات المقاومة التي برزت في حرب غزة الأخيرة، فإن الانتفاضة الثالثة ستكون نتائجها أعظم. كيف؟ هناك ظروف جديدة مناسبة جدّا للفلسطينيين للتقدم خطوة نحو انتزاع حقوقهم التاريخية المغتصبة، فعلى المستوى الاسرائيلي هناك مؤشرات عديدة مهمة ينبغي أخذها بعين الاعتبار وهي الفشل في حرب تموز في لبنان والفشل في حرب غزة والفشل في إيقاف برنامج إيران النووي، وفضيحة اغتيال المبحوح بكل تداعياتها والسعي المحموم لإصدار قوانين ضد «عرب 48» وهو أمر يعكس مدى الهلع الاستراتيجي الذي يمثله فلسطينيو الداخل بالنسبة لدولة ظلت تعاني منذ وجودها من المعضلة الديمغرافية العربية، إضافة الى التغيير الملحوظ في موقف الرأي العام الغربي من الدولة العبرية خصوصا بعد حرب غزة وتقرير غولدستون . أما عربيا وإقليميا فينبغي الانتباه الى أن الانتفاضة وحدها قادرة على إرباك الأنظمة العربية فلا أحد سيتحجج بالأمن القومي او بمشاريع حماس «الظلامية»، ثم لا ننسى المكسب الاقليمي العظيم الذي غنمه الفلسطينيون والعرب عموما، وهو خروج تركيا من «غربتها» وتنامي قدرات إيران العسكرية. معركة حضارية يرى مراقبون ان هذه المعركة (تهويد القدس الاستيلاء على المعالم الفلسطينية التاريخية) هي معركة ثقافية وحضارية بالأساس، فما هو رأيك؟ تحضرني في هذه اللحظة المقولة الصهيونية الشهيرة «الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت» ولقد فعل الصهاينة كل ما في وسعهم لقتل الفلسطينيين تجويعا وتجهيلا وتشريدا واعتقالا والآن جاء دور الهوية، اي «الاقتلاع من الجذور» الثقافية كما يقول الكاتب السوري حنّا مينة، وما يحصل الآن هو خطير جدا إنه سعي لمسخ الفلسطيني وسلبه تاريخه ومقدّساته، وما يحصل له بُعدان: الأول سياسي يتمثل في فرض الأمر الواقع لاستغلاله في ما بعد في المفاوضات والثاني استراتيجي وهو تجريد الفلسطيني من هويته الثقافية والدينية تمهيدا لقتله حضاريا كما حصل مع شعوب أخرى بادت وانقرضت كالهنود الحمر مثلا، وعلى هذا الأساس فإن أسلمة القضية لا ينبغي ان ينظر إليها على أنها من باب الشعارات او من باب دعم الحركات الأصولية بل هي ضرورة استراتيجية وإن انزعاج الصهاينة من حزب الله وتركيا وإيران وسوريا ليس لأسباب عسكرية فقط، بل خوفا من أسلمة القضية بعدما نجحت إسرائيل في عزل القضية عن بعدها العربي. مصالحة هل ترى في معركة القدس فرصة للمصالحة الفلسطينية؟ هذا أمر ضروري وحتمي والذين يحاولون منع الانتفاضة الثالثة هم أولئك الذين لا نيّة لهم في المصالحة ومعركة القدس ستحسم المصالحة لصالح المقاومة. نهاية الأسبوع القادم، ستعقد القمة العربية في ليبيا فما هو المطلوب منها؟ قل لي، بالأحرى ما المنتظر منها؟ . لاشيء في الأفق غير ما هو معتاد، والشيء الوحيد الذي قد يعطي للقمم العربية مصداقيتها تجاه القضية الفلسطينية هو سحب المبادرة العربية للسلام وترك الفلسطينيين يتدبّرون أمرهم بنفسهم. كلمة الختام؟ إن القضية الفلسطينية لا يعوزها المنطق ولكن شعور الانصاف هو ما فقدته أوروبا وأمريكا وكم هي مضحكة تلك الأصوات التي تدعو الى ترك القضية للأوروبيين والأمريكان.