بقلم: الأستاذ عبد الستار البرهومي (المحامي لدى التعقيب) استبشر جميع أفراد الأسرة القضائية الموسعة بإعلان سيادة رئيس الجمهورية بمناسبة إشرافه على اجتماع المجلس الأعلى للقضاء يوم 3 أوت 2009 عن الشروع في تعميم الدوائر الجنائية على جميع المحاكم الابتدائية بصفة تدريجية بداية من السنة القضائية المقبلة ومع اقتراب الموعد المذكور كثر الحديث عن المحاكم التي قد تكون مؤهلة أكثر من غيرها لبعث تلك الدائرة بها. فمن المعلوم ان الدوائر الجنائية الابتدائية بعثت لأول مرة ضمن النظام القضائي الجنائي التونسي سنة 2000 بمقتضى القانون المؤرخ في 17 أفريل 2000 والمتعلق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من مجلة الاجراءات الجزائية لإرساء قاعدة التقاضي على درجتين في المادة الجنائية كما تم بالتوازي مع القانون تنقيح وإتمام بعض فصول مجلة حماية الطفل لتكون منسجمة ومتماشية مع التعديل المذكور وذلك بمقتضى القانون الصادر بنفس التاريخ المذكور. وقد خص القانون المذكور المحكمة الابتدائية المنتصبة بمقر محكمة استئناف بالنظر ابتدائيا في الجنايات ومعنى ذلك انه تم الاعتراف لأول مرة بالمنظومة القانونية التونسية بحق المتهم في جناية في المحاكمة على درجتين على خلاف ما كان معمولا به سابقا حيث لم يكن من الممكن انذاك للمتهم في جناية الطعن بالاستئناف في الحكم الصادر ضده باعتبار ان تقع محاكمته مباشرة من طرف محكمة الاستئناف التي تصدر حكمها بصفة نهائية ولا يمكنه في هذه الحالة سوى الطعن بالتعقيب. وقد جاء القانون المذكور بثورة حقيقية وسابقة لم يكن معمول بها لدى الكثير من دول العالم غير انه كان من الواضح انه قانون مرحلي يؤسس للمستقبل وذلك من خلال اقتصاره على المحاكم الابتدائية المنتصبة بمقر محكمة الاستئناف او ما يعرف بالمحاكم الابتدائية الممتازة والتوسيع في مرجع نظرها الحكمي بإسنادها صلاحيات النظر ابتدائيا في الجنايات وكذلك في مرجع نظرها الترابي من خلال التوسع فيها ليشمل مرجع النظر الترابي لمحكمة الاستئناف بكامله. ولعل ذلك الخيار يعزى أنذاك الى بعض العوائق البشرية والمادية نذكر منها عدم توفر قضاة من الرتبة الثالثة بالمحاكم الابتدائية العادية و«التفوق النوعي» الذي كانت تحظى به المحاكم الابتدائية الممتازة باعتبار أن رئيسها ووكيل الجمهورية لديها هما قضاة من الرتبة الثالثة (أي في مرحلة التعقيب) في حين أن هاتين الخطتين كانا يشغلهما بالمحاكم الابتدائية العادية قاضيان من الرتبة الثانية. أما اليوم فقد تم تعميم قضاة الرتبة الثالثة على جميع المحاكم الابتدائية بأن أصبح رئيسها ووكيل الجمهورية لديها ينتميان الى نفس الدرجة التي ينتمي إليها نظراؤهم بالمحاكم الابتدائية الممتازة كما تم ادخال عديد الاصلاحات الهيكلية على الخطط القضائية بجميع المحاكم الابتدائية الذي يعد تمهيدا مباشرا وحقيقيا لتعميم الدوائر الجنائية على جميع المحاكم الابتدائية ولو بصفة مرحلية، فهل تسمح المؤشرات الاحصائية المختلفة ببعث دائرة جنائية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد خلال السنة القضائية المقبلة؟ لقد شهدت دائرة قضاء المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد خلال العشريتين الأخيرتين تطوّرا ملحوظا وقياسيا في حجم العمل لا يؤهلها فقط لإحداث دائرة جنائية بها بل لقد كان سببا في المطالبة بإحداث محكمة استئناف ويتضح ذلك من المعطيات الموضوعية التالية: المبررات الإحصائية لعل أهم مؤشر او مبرر لبعث دائرة جنائية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد هو عدد القضايا الجنائية المرتكبة بالجهة والتي تجاوز عددها سنة 2009 أكثر من نصف القضايا الجنائية المنشورة أمام الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بقفصة التي تضاعف عدد القضايا لديها اكثر من مرة عما كانت عليه في السنوات القليلة الماضية مما سبّب مضاعفة عدد جلساتها الأسبوعية نظرا لتراكم الملفات لديها و أصبحت تعاني حالة اكتظاظ لا يمكن حلها بإحداث دائرة جنائية ثانية وتكون في هذه الحالة بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد في إطار التنقيح المزمع ادخاله على أحكام مجلة الاجراءات الجزائية سيما وأن تنقيح 17 أفريل 2000 لم يأت لحل مشكلة الاكتظاظ كما لاحظ ذلك السيد وزير العدل عند مناقشة القانون المذكور (مداولات مجلس النواب الرائد الرسمي عدد 28، جلسة 11 أفريل 2000، صفحة 1456). كما أن الإطار البشري والبنية الأساسية المتوفرين حاليا بدائرة قضاء المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد لا يقل شأنا بدوره عما سبق ذكره حيث يوجد بها حاليا خمس دوائر مجلسية وثلاثة قضاة تحقيق أحدهم قاضي تحقيق أول من الرتبة الثالثة وثلاثة مساعدين لوكيل الجمهورية أحدهم مساعد أول من الرتبة الثانية وخمس محاكم نواحي وعدد 86 محاميا ما يزيد عن ثلثهم مايزال بطور التمرين ومن شأن إحداث دائرة جنائية بأماكن انتصابهم أن يوفّر لهم فرص أكثر للعمل ويذلل الصعوبات أمام الزملاء المتمرنين التي تعيقهم عن التنقل لقبول التساخير والاطلاع على الملفات والحضور والترافع بالجلسات حتى تكون تلك الفرص متكافئة بين الجميع. تقريب القضاء من المواطن حيث أنه مما لا شك فيه ان السلط العليا في البلاد ما فتئت تعمل على تقريب القضاء من المواطن وذلك بإحداث محاكم جديدة بمختلف درجاتها وأنواعها سواء كانت ناحية او ابتدائية او استئنافا كلما رأت لزوما لذلك وقد أثبتت التجربة صحة تلك الخيارات، فبعث دائرة جنائية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد أمر من شأنه تعزيز ذلك الخيار وتدعيمه والاستجابة لرغبة المتقاضين بالجهة وتذليل الصعوبات أمامهم وذلك بتمكين من كان منهم طرفا في قضية جنائية من المحاكمة ابتدائيا أمام المحكمة القريبة من مقرات إقامتهم ويجنبهم عناء التنقل مسافة تزيد عن المائة كليومتر لحضور الجلسات الجنائية الابتدائية بالمحكمة الابتدائية بقفصة والتي كثيرا ما كانت سببا في غياب المتهم او المتضرر عن الحضور وحرمانه من طور من أطوار التقاضي بسبب بعد المسافة بل وأحيانا بسبب توجهه الى محكمة الاستئناف لإعتقاده بانتفاء أية علاقة له بالمحكمة الابتدائية بقفصة زيادة عن مصاريف التنقل التي يتكبدها في سبيل ذلك والتي من شأنها التأثير سلبا على مبدإ مجانية التقاضي والحدّ من فاعليته. في الختام يمكن القول ان جميع تلك المؤشرات والمعطيات الاحصائية تسمح ببعث دائرة جنائية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد في إطار المشروع الذي أعلن عليه سيادة رئيس الجمهورية الرامي الى الشروع في تعميم الدوائر الجنائية بداية من السنة القضائية المقبلة تكون خير ما نفتتح به المقر الجديد للمحكمة الابتدائية.