ثمانون سنة ونيف.. مرت على ذلك السياسي الفرنسي المتشبث بأفكار التقوقع والتعصب.. ثمانية عقود كاملة لم تزحزح شيئا من معتقداته السياسية ورؤاه السوداوية للاخر وتصوراته عن «فرنسا الفرنسية».. ولم تحرك فيه سواكن مقاربته العنصرية.. مرت الأيام وجون ماري لوبان.. يتسيد أقصى اليمين ويتصيد أية فرصة للانقضاض على «الغريب أو ابنه أو ابن ابنه «.. بقي كما عرفه أصحابه في الجامعة ورفاقه في الأحزاب اليمينية التي انتمى إليها.. وكما عهده مناصروه ومنافسوه.. رجلا أضاع دروب حروب فرنسا المستعمرة.. فوجدها في الساحة السياسية.. منذ السنين الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت «مشاعر العسكرة» تجتاح المراهق جون ماري لوبان الذي أراد أن يثأر لبلاده من «شبه الهزيمة» التي منيت بها على يد النازيين..ولوالده الذي قضى نحبه في تلك المعارك.. وبين مرارة مشهد هوان وطن عجز عن الدفاع عن أرضه..وبين شعور بالغبن جراء فقدان أب في حرب كانت خسائرها أكثر من أرباحها.. قرر لوبان الانخراط في حروب بلاده ضد حركات التحرر في العالم الثالث.. بحثا عن مجد مفقود وثأرا لأب فقيد.. فشارك في عمليات الجيش الفرنسي في الجزائر وفي الفيتنام.. وحضر بقوة في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس في 1956.. وفي كل مرة كان لا يفوت مناسبة لتسجيل حضوره في «مأدبة» إراقة الدماء البريئة... وفي كل مرة كان يرفع راية الدفاع عن النفس ذريعة لما اقترفت يداه.. وفجأة توقف أزيز الدبابات الفرنسية وصمتت جلجلة الرصاصات.. وفجأة وجد لوبان نفسه مضطرا الى إيقاف إطلاق الرصاص ومغادرة ميدان القتال..فيما جرح الغبن العائلي والوطني لم يندمل بعد.. لا سيما وأن الانسحاب الفرنسي من تلك المناطق كان اضطراريا وليس اختياريا.. وفجأة أيضا وجد لوبان نفسه أمام خيارين إما أن يصبح مقاتلا مرتزقا وإما أن يدخل عالم السياسة من باب تنفيس الغل وتقليل الغبن.. وبين الخيارين, فضل أن يعيش عسكريا من حقبة الاحتلال في ثوب سياسي.. هكذا اختار وهكذا كان ولا يزال.. لم يقدر اليمين الفرنسي الديغولي حينها على استيعاب أطروحات لوبان التي تنفي المسلّم.. وتسلّم بالمنفي.. فبدأ يأخذ مسافات فكرية تبعتها أخرى سياسية عنه.. إلى أن اضطر في 1972 إلى الانفصال وتكوين «حزب الجبهة الوطنية»..الذي يترأسه منذ ذاك التاريخ..والذي طبعه بطابعه الشخصي واستحال امتدادا سياسيا له وتجسيدا لكل أحقاده.. ومنذ ذلك التاريخ.. والحزب يبحث له عن مكانة سياسية وقاعدة شعبية..وموقع في العقلية السياسية الفرنسية.. بيد أنه وفي كل دورة انتخابية يصطدم برؤية فرنسية لدى الناخب ترى في اليمين عامل تعديل حضاري لليسار وفي الأخير «أنا أعلى» لليمين.. ولا ترى في «الجبهة» سوى انزلاق فكري خطير يطمس معالم فرنسا الثقافية.. هكذا كان المقترع الفرنسي يصرح ويصوت.. وهكذا أطاح بلوبان في «رئاسية» 1974 تحصل على 0,74 من الأصوات, وفي 1981 حيث لم يحصل على القدر الأدنى من الداعمين للترشح وفي 1988 وبدرجة أقل في 1995 قبل أن تعصف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والهوياتية بفرنسا فتحيد بالمصوّت عن صوت الضمير والعقل.. وعلى الرغم من انزلاق نسبة معتبرة من المصوتين الفرنسيين لأطروحات أقصى اليمين فإن.. الغالبية بقيت حذرة في الأوقات الحرجة ورفضت منح صوتها ل «المستقبل المظلم»... ولصاحب التاريخ المظلم.. كيف لا.. والحزب اعتمد رفض الآخر فقط برنامجا له..واصطفى من الإيديولوجيات المتطرفة ما تتعارض مع المخزون الثقافي الفرنسي المنبني على الانفتاح وتقبل الآخر.. كيف لا.. وجون ماري لوبان..اختلق المشاكل مع كافة السياسيين القدامى والجدد ووضع عراقيل تفاهم قادم.. مع أي طرف منهم.. كيف لا.. ولوبان.. يستهزئ بكبار المثقفين الفرنسيين ويعتبر أن فرنسا محكومة من طرف ثلاثة مفكرين مهووسين جنسيا ألبار كامو , وجون بول سارتر, وفرنسوا مورياك.. كيف لا.. ولوبان يربط علاقات وثيقة بالنازيين والفاشيين الجدد.. الذين يعتبرون «حزب الجبهة الوطنية» امتدادا لأفكارهم في فرنسا.. كيف لا..ولوبان مدان في أكثر من 25 قضية جنائية..من بينها الترويج للأفكار النازية في فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية... كيف لا.. ولوبان أكد في أكثر من خطاب أن فرنسا للفرنسيين.. أمثاله فقط.. بالأمس فقط..أعلن لوبان عن عزمه مغادرة حزب الجبهة..موفى السنة القادمة.. وعن تركه دفة الرئاسة في «الوطنية» لشباب الحزب.. بعد أربعة عقود.. إلا قليلا..اقتنع لوبان بضرورة ضخ الدماء الجديدة في الحزب.. وبحتمية مغادرته كرسي الزعامة.. أربعين سنة كاملة.. ولوبان يقلد الأنظمة السياسية في بعض بلدان إفريقيا السوداء التي يمقت القادمين منها.. ويتبع طرق الرئاسة لديها في التشبث بالحكم والاقتتال عليه... الإشكال لا يقف.. عند استيراد أنظمة الحكم من هذه البلدان..فلوبان كاره الأفارقة السود.. فتح وكما يفعل الزعماء في العالم الثالث الطريق أمام ابنته لخلافته على رأس حزبه بل الأكثر من ذلك فهو يجير الدرب أمام حفيدته الكبرى لخلافة خالتها. .. يكاد يجمع المحللون السياسيون أن لوبان يمثل ظاهرة فريدة في المشهد السياسي الفرنسي.. ومكمن الغرابة متجسد في الكثير من النقاط والأمور.. تبدأ من السياسة ولا تنتهي عند تمثله لنفسه وللآخر.. بيد أن الأغرب في تقديرنا متمثل في أنه يعتبر نفسه ملزما بتوريث الكراهية لأبنائه ولأتباعه.. وأنه لا يدرك حجم خطورة تمرير المقت.. الذي يؤدي إن عاجلا أم آجلا إلى تدمير النفس والآخر والبلاد.. الأكيد أن فرنسا فرحت بنبإ المغادرة والانسحاب..والأكيد أيضا أن كافة الأحزاب الفرنسية انتظرت منذ أمد طويل هذا الخبر السعيد.. بيد أن الأوكد أن المهاجرين تيقنوا أن عليهم الانعتاق من «الغيتوات» ومن ثقافة «الغيتوات» وولوج ميادين الإبداع من أوسع الأبواب ومن أكثرها تأثيرا..