رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر كلمات الراحل محمد عابد الجابري ل «الشروق»: الاستعمار حوّلنا إلى مجرّد مستهلكين، لا غير
نشر في الشروق يوم 06 - 05 - 2010

هو حوار مطوّل... فيه الجانب الفكري المفسّر للبنى الفوقية لفعل الأمة الحضاري والاجتماعي، وفيه الجانب السياسي الذي يعنى بواقع الأمة المعيشي في جدلها المتواصل مع الوجود والحياة... في بيته بالدار البيضاء بالمغرب الأقصى كان الحوار الذي نشرته «الشروق» على قسمين: الأول يوم 16 نوفمبر 2008 والثاني الأحد الموالي لذاك الأحد، أي يوم 23 نوفمبر 2008...
بعد اللقاء، قال لي رحمه الله ما معناه، انه حوار طويل ومطوّل... وكان في الحقيقة آخر حوار له بنفس هذا الشكل، لأن الرجل وجدته حينها منغمسا في كتابه الجديد: «فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول».
الموت علينا حقّ، لكن الصدمة كانت شديدة علينا جميعا... نحن الذين تملّكتنا الرهبة الفكرية، ونحن ندنو من أعمال الجابري، سواء في حياتنا الأكاديمية البحثية أو في حياتنا العملية الصحفية...
أيام قليلة خلت، خاطبته عبر الهاتف، وكان مرحّبا كما عادته... بشوشا بهدوئه المعهود... فالرجل كنز فكري لا ينضب... وحتى اذا ما توهّمت وأنت أمامه أنه غير متابع للشأن السياسي، لنزوعه الفكري البحثي المتواصل، فإنك وبمجرد أن تتحدث عن قضية أو تصريح صدر البارحة، تجده مستوعبا له، مفسّرا وملقيا بظلال خطابه الفكري المعهود والسياسي الواضح، خطاب يحمل بين طيّاته التشريح والحلّ...
«الشروق» ارتأت، وتكريما للفقيد أن تنشر الحوار بجزأيْه على يومين، اليوم وغدا، حيث رأينا أنه بعد مرور سبعة عشر شهرا على نشره، مازالت أجوبة الجابري صالحة ومازالت التساؤلات والأسئلة بلا حلّ... وقابلة للطرح...
رحم الله الفقيد الذي صالح الفكرة مع الممارسة، وصالح النقد مع البحث العلمي...
رحم الله محمد عابد الجابري، والذي سيمكّننا اي رجوع الى النص الذي كتبه منذ 1971 الى أشهر ماضية، من الوقوف على جدلية الفكر العربي بين التنظير والمقارنة والممارسة...
الدار البيضاء (الشروق):
في بيته المحيط به سكون وهيبة، جلس صاحب المعول الذي نبش طويلا في العقل العربي، في قاعة استقبال مغربية، حيث غاب التلفزيون وحضرت الكتب... الشارع المؤدي لبيته في إحدى ضواحي الدار البيضاء، يوحي بالرقي.. رقي الحي.. ورقيّ المباني المتباعدة تزيد الحدائق التي تلفّ المنازل رونقا وجمالا...
بحاجبيه الغليظين، ونظرات عينيه المتفحصتين في كل شيء، سواء كان ماديا أو معنويا (الفكرة)، سأل الدكتور محمد عابد الجابري، عن تونس، وعن «الشروق» التي تكوّنت بينه وبينها ألفة، ألفة قوامها الفكر والقلم...
حين يستقبلك الجابري، ويخرج بنفسه لفتح الباب أمامك، تتأكد أن هذه الأمة مازالت بخير، حين يتواضع علماؤها ومفكروها بمثل ما تراه في د. عابد الجابري... هذا المفكر والباحث والسياسي، الذي كسر القيد مبكّرا عن العقل والفكر في الوطن العربي، وكسر بنفس المناسبة سياج البرج العاجي الذي مافتئ مفكرو ومثقفو الأمة يضعون أنفسهم فيه، غير عابئين بأن في الأمر سجنا لهم ولعقل الأمة...
في تواضع تام، بدأ الجابري، حديثه ل«الشروق» وفي هذا الركن «حديث الأحد» الذي استضافه أكثر من مرة، سوف يعمد الجابري، الى تشريح «العالم العلوي» للذات العربية، غير عابئ بنقد إخوتنا المشارقة، ولا بمخالفة هشام شرابي له... حين كتب الجابري أجزاءه الأربعة حول «العقل العربي»...
عزف عن السياسة، بقرار ذاتي، هو الذي يُعتبر من المناضلين (الخام) الذين لم تلوّثهم المناصب، بقرار منهم... عزف عن الفعل السياسي، وليس به ندم ولا حيرة... لكن ذاته، تسبح مرات ومرات مع خيارات الحزب الذي انتمى اليه مؤسسا ومنظرا: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية...
عزف عن السياسة، لكنه ظل يعزف على أوتار الفكر والمعرفة، يغوص في العقل العربي تاريخا، ويسبر أغواره، إيبستيمولوجيا ومعرفيا...
الدكتور محمد عابد الجابري، يعكف هذه الأيام، على خوض تجربة جديدة في الكتابة: يكتب مقاربة للقرآن الكريم انطلاقا من التسلسل الزمني الذي نزلت فيه الآيات البينات وحيا على الرسول محمد ے.
أمام هذا الكم الهائل من المعلومات والمعلومات المضادة، حول الأمة العربية وحول العقل العربي، كان لابدّ من سؤال حيرة، أن يوضع أمام هذا الباحث، باحث مكّنته سعة المعرفة لديه واطّلاعه على كل التطورات في الوطن والعالم، من أن يكون أحد رموز الفكر العربي المعاصر...
حين وضعت أمامه نصّ السؤال، بدا متذكرا لفحواه، لأنه كان تقريبا هو نفسه منذ عشرية من الزمن، حين سألت الجابري وفي مثل هذا الركن.
ما الذي أصاب العقل العربي، ذاك الذي تحدثت عنه في الأجزاء الأربعة، من كتابك الذي اخترت له عنوان «العقل العربي»، فهل هو دون العقل الآخر أم هو متميز..؟
العقل العربي، الذي تناولته في الأجزاء الأربعة، هو العقل الذي تكوّن في الحضارة العربية.. خلال القرون الوسطى لما كانت الحضارة العربية في أوجها وخاصة في العصر العباسي... انا أعتقد حتى لا اتهم بالتشاؤم ان الحضارة العربية الاسلامية التي أنشأت العقل العربي، هي الحضارة الوحيدة في العالم التي بلغت مرحلة التهرّم وتريد أن تستأنف من جديد.. هي حضارة تريد ان تنهض، وما فتئت تعبّر عن ذلك بشتى الأشكال.
هنا، لنتساءل: أين هي الحضارة اليونانية أين هي الآن في بلاد اليونان؟ فحتى لغة اليونانيين الحالية ليست هي نفسها التي علّمت العالم الفلسفة والعلوم... ثم أين الحضارة الفرعونية؟ إنها لم تستأنف... الحضارة الرومانية استأنفت عبر الحضارة العربية من خلال القيم الرشدية (نسبة لابن رشد) اللاتينية هي التي كانت أساس الحضارة الأوروبية فقد نقلت الحضارة العربية العلوم والمعارف الى أوروبا.
ما حدث في التاريخ هو ان النهضة الأوروبية مكّنت من بروز النهضويين من القرن الحادي عشر الى القرن الرابع عشر (ميلاديا) هذا ما جاء في كتاب «جاك لوقوف» Le Goff الذي تحدث فيه عن هؤلاء النهضويين الأوروبيين الذين أخذوا عن العقل العربي وعن ابن رشد.. عندما نقرأ هذا الكتاب نجد «لوقوف» يصف إعجاب هؤلاء الحداثيين الذين سمّوا بالرشديين، بالحضارة العربية أكثر من اعجابنا نحن الآن بالحضارة الأوروبية... كانوا يقدّمون نصوصا بالعربية ويتنافسون في ذلك. أريد أن أقول إن الحالة التي نحن فيها الآن، هي شبيهة بالتي كان عليها روّاد النهضة الأوروبية لكن ما يفرّق بين الاثنين هو أنه بقدر ما كان الحداثيون النهضويون الأوروبيون يمجّدون العالم العربي والعقل بقدر ما كانوا يثورون ضد الكنيسة ويتهمونها بالجمود... لقد كانوا يمارسون النهضة خارج الكنيسة وضدّها. نحن الآن وعندما انطلقت اليقظة العربية الحداثية في القرن التاسع عشر كانت بمثابة ردّ فعل ضد الاستعمار، ولم تكن بالتالي نتيجة دخول العلوم الأوروبية الى العالم العربي، كما كانت قد دخلت العلوم والفلسفة العربية الى أوروبا وأحدثت تغييرا بل كانت اليقظة العربية ردّ فعل ضد الاحتلال الاستعماري.
من هنا، أصبح الرجوع الى الدين عندنا أساسه مناهضة للاستعمار. اذ لم يحدث عندنا أن تطوّرت النهضة على أنها أخذ لعلوم أوروبية ومناهضة للدين كما حدث في أوروبا بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر (ميلاديا). وقت كان الأوروبيون يأخذون العلوم عن «ابن رشد» لما كانوا في صراع داخلي ضدّ الكنيسة، ولم يكن لديهم تهديد خارجي أما عندنا فقد كان النهضويون ضد الاستعمار لأن الغرب لم يكن علوما فقط بل استعمارا واحتلالا... فحملة «نابليون» أتت بعلوم ولكنها كانت حملة احتلالية، إذن من هذه الناحية نرى أن عودة الاسلام الآن بشكله العنيف، هي امتداد لنفس الدعوة لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما وحتى من المسيحيين والعلمانيين العرب، هؤلاء كانوا قلّة، لكنهم لم يواجهوا الدين ولم يستطيعوا ولم يكن لهم مبرّر لأن الدين تبنّى قضيّة الدفاع ضد المستعمر والسبب في ذلك أن الدين في المجتمعات العربية ليس كنيسة ممثلة في أملاك وأراض، أي دولة داخل دولة نحن لم نعايش تلك المظاهر، لأن الدين في ضمير كل فرد. والذي يقاومه إنما هو يقاوم المجتمع كله، بينما الكنيسة، هي تنظيم ملموس... ولذلك لما انتصر النهضويون في أوروبا وأصبحوا فيما بعد علمانيين، أصبحت الكنيسة معزولة وحدّد لها إطار خاص: الروحية لا علاقة لها بالمادية... هذا لا يمكن أن يكون في الاسلام خاصة وأن الخصم هو نفسه: مستعمر الأمس.
كيف يمكنك أن تقدّم مثل هذا المشهد لكأنك تجد الأعذار لهذا الطرف أو ذاك، أو لنقل، كأن الجابري نهضوي حدثي أوروبي هنا ونهضوي حدثي عربي هناك، رغم الفروق والتضاد الذي ذكرته؟
نحن العرب، لنا إمكانية الرجوع الى البداية... سُئلت مرارا: أنت تكتب في الماركسية كأنك ماركسي وعندما تكتب في القومية كأنك قومي وتكتب في الاسلام كأنك إسلامي، قلت لهم أنا مع الجميع لأن الواقع العربي له ما يبرّر ويفرز الاسلاميين والقوميين والماركسيين، ولذلك كان رأيي وما يزال: «لا يمكن القيام بنهضة علمية واقتصادية بواسطة فريق واحد» لأن هؤلاء الفرقاء كلهم لهم جذور في المجتمع ولهم اتباع، وان اي انتصار لأحدهم سوف يحطم الآخر.
في الخمسينات كان التيار القومي، يطرح نفسه باعتباره قائد القاطرة ولكن لما حصلت العثرة قال الاسلاميون «راحت القومية وبقينا نحن» وهكذا حصل مع اي فريق لا ينبغي ان نتشاءم او نتخوف فنحن لدينا تعدد وإعادة انتاج لنفس الفصائل والاتجاهات حتى إذا بلغ اتجاه معين مداه يقوم آخر.
هل هذه نظرية الدورية او التداول؟
نعم، هناك نوع من الدورية cycle كل مرة يذهب هذا (الاتجاه) ويرجع ذاك ولكن ما يبرر هذا الامر هو ان القوى الاجنبية تناصر احيانا الاسلاميين مثل بن لادن واحيانا تساند العلمانيين. العامل الخارجي لعب ولا يزال دورا اساسيا في تحريك المشهد السياسي، لذلك فإن الزمن الثقافي العربي والزمن السياسي العربي هما زمان كان يسميه «المعتزلة» حركة اي اهتزاز الزمن الجامد الذي لا يتحرك ولكنه يهتز وهو في نفس المكان.
كيف تعيش الأمة مثل هذه الحركة حركة الاهتزاز؟
هناك وضعية وجوانب اخرى، لها دور كبير في حركة الاهتزاز او الاعتماد، فمشكلتنا نحن العرب، ليست سياسية فقط او دينية فقط او هي اقتصادية فحسب، بل هي جغرافية مثلا فكل بلد عربي فيه مدن صغيرة تتفاوت في الحضارة والبقية (بقية المجتمع الواحد) هم بدو وريف (اما زراعي او صحراوي)، فللمدينة la cité نمط من العيش والتفكير وللبداوة ايضا نمط من العيش والتفكير، المدن عندنا محاطة بالنازحين فإذا كانوا ماركسيين مثلا يكونون في الكل كذلك (اي بشكل كلي) تجدهم كلهم منخرطين في الحزب الشيوعي غير فاهمين. تشاهد مثلا اليوم، اسلاميين يدخلون وينتخبون فيغيرون المشهد السياسي دون فهم منهم، لأنهم دخلوا هذا التيار او ذاك، او هذا الحزب او ذاك على سجيتهم، فتجدهم بدوا. في اسلاميتهم (السياسي) يعودون الى اللباس عهد الرسول ے. كذلك الشأن مع التيارات الاخرى.
المشكلة، ان هذه المظاهر خطيرة ولكن في الآن نفسه صعبة جدا، مثلا في اوروبا، الامر الذي حل المشكلة هي الثورة الصناعية، دخل العمال المصنع وعقلهم يتأقلم مع اشغالهم الجديدة، لقد بدأت مظاهر الثورة الصناعية بالحديد والصلب، العامل يتغير هناك من فلاح بفأس الى عامل بمعول، عامل سوف يصبح عضوا في سلسلة Travail à la chaine.
عهد الاستعمار، كان عندنا عمال لدى الفرنسيين يسمونهم العمال بالفرنسية Les ouvriers فاقتبس من الحروف اللاتينية هذه تسمية فيها عيب في النعت، وهذا يعني ان عقليته (الفرد) تغيرت، بمجرد ولوجه المصنع. فيمكن مثلا ان لا يصوم رمضان، على اعتبار ان مقتضيات عمله تتطلب ساعات مسترسلة وليس هناك في العمل الجديد (المصنع) توقيت خاص برمضان ويمكنه (العامل) ان يدخن وفي اي وقت، يعني اضحى خارج التقاليد، هذا الوضع (الصناعي) صنع رجلا جديدا في اوروبا، بفضل الثورة الصناعية لكن نحن العرب لم نعرف بعد هذه المرحلة لأن الاستعمار جاءت بالسلع جاهزة ونحن دورنا الاستهلاك فقط.
ولكن المشهد العربي يعاني من اشكالية اخرى وهي الديمقراطية، فهذا النمط الدستوري في الحكم نجده في الوطن العربي يشبه كل شيء، كل فريق يراه من منظار في حين ان الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية جاء كحاجة لمجتمعات اوروبا الناهضة اوروبا الصناعية أليس كذلك؟
الديمقراطية الآن، عندنا اي عند المجتمعات العربية التي تنتخب تحيلك على مشهد، هذا عنده اموال يشتري بها اصوات، وهذا (الحاكم) يقر ديمقراطية بطريقته.
ما الحل إذن، أنكفر بها؟
المسألة معقدة، فيها عوامل جغرافية وعوامل دينية وعوامل خارجية، وهذه الاخيرة لها دور كبير، حين نتذكر ونستذكر التاريخ، نجد ان نهضة محمد علي في مصر لو لم يجهز عليها الفرنسيون لكانت منصة الانطلاق، انطلاق نهضة صناعية كبرى في مصر ومنها في المنطقة العربية، تماما كما تجربة عبدالناصر التي اجهز عليها وجود اسرائيل في المنطقة كذلك تجربة صدام ايضا اجهزوا عليها عبر مراحل حيث شغلوه في حروب ومناوشات ثم اجهزوا عليه.
هنا لا بد وان نعير اهتماما لكلامهم، واقصد الغرب، فهم يعترفون ان الحياة المدنية العربية المعاصرة مرتبطة بالنفط، هم يقيمون سياستهم واستراتيجيتهم على اساس تدفق النفط عليهم من المنطقة العربية، النفط ليس ملكا للعرب بل ان الطرف العربي يأخذ الريع «commission» اما الشركات فهي ملك المالك، المشهد في الخليج، يرشح بأن هناك عمالة آسيوية، الغرب في هذا المشهد الغني بالنفط يبدو هكذا: الغرب يخطط ويسوق بعد ان يستخرج النفط (عبر شركات متعددة الجنسيات) واخواننا هناك يأخذون اموالا تسمى عائدات.
وهنا عرج الجابري على صيغة التأميم التي لم تعد موجودة في الوطن العربي بعد ان احتل العراق، معتبرا ان جزءا من معاقبة الغرب للعراق، كان تأميمه للنفط وهنا وضح المفكر المغربي العربي انه لا يقصد بالتأميم احتكار الدولة للنفط، اذ هناك فرق بين التأميم وما يشبه التأميم، دون ان يكون كذلك.
سألت ضيفي حول الوضع الدقيق الآن على اثر الازمة المالية التي بدأت عواصفها تمر الى العالم عبر الولايات المتحدة الامريكية:
حين تحدثت سابقا في «الشروق» اشرت إلى هنات العولمة وذكرت وقتها انه نظام دولي لا يستند الى اسس ثابتة، وها نحن الآن وبعد سنوات من ارساء هذه العولمة التي تقوم على المضاربة بالمال، فيها الكثير من الافتراضي le virtuel او اللامادي نشهد انهيارا لمنظومة قد يؤدي الى نهاية نظام، هل ترى الأمر من نفس المنظار، اذا اعتمدت التقييم الحيني؟
اضافة الى ما ذكرت فقد كتبت عن الموضوع في اوائل التسعينات وبينت ما هو حاصل الآن وفي هذه السلسلة من كتاب الجيب «livre de poche» التي تصدر تحت عنوان «فكر معاصر» منذ بداية العولمة، وتصريح بوش الأب بأنه «نظام عالمي جديد» سمّي فيما بعد بالعولمة، قلت نفس ما يحدث الآن، كما قلت وأعيدها إن العولمة هي إمبريالية جديدة وليست نظاما عالميا جديدا..
طيّب، هناك سؤال ما فتئت أسأله، لمن يكونون ضيوفا على صحيفة «الشروق»، وهو الذي يهمّ مقارنة للمشهدين العربي والأمريكي اللاتيني.. لقد انطلقنا من نفس العتبة، عتبة النضال ضدّ الاستعمار والهيمنة، فلدينا إسرائيل مزروعة في خاصرة الأمة، وهم يعانون ممّن «يشغّل» إسرائيل، ورغم هذا، لنرى، هم أين وصلوا وأين نحن قبعنا.. ألا ترى تفسيرا للمفارقة؟ وهل يعني أن أمريكا اللاتينية أفلتت في حين تم القبض على الأمة؟
أمريكا اللاتينية، أمرها أسهل.. لأنها مسيحية وليست لها تناقض مع الغرب الحضاري. والقائمون الآن بثورات هناك (في أمريكا اللاتينية)، كلّهم يعانون من التطويق... حركاتهم مطوّقة، وكلّهم مزروعة عندهم مشاكل داخلية على طريقة ما حدث مع عبد الناصر وما وقع في تشيلي مع «ألاندي» العامل الأجنبي يتدخّل في هذه التجارب بسهولة.. هذا ما يقع الآن في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية التي ناهضت الامبريالية.. لذا لا يجب أن نتسرّع ونعطي ثقة في تجربة مازالت على البدء تسير..
هنا شدّد الجابري، وبكل ثقة في الكلام الذي يقوله، إن هذه التجارب في أمريكا اللاتينية وعلى نوعيتها، لا تخلو من مشاكل داخلية ولا تمنع من محاصرة..
كيف يقيّم د. عابد الجابري، تجربة الفعل السياسي العربي، وتعاطي المثقف العربي مع المشهد الذي ذكرت، ألا تعتقد أن رهطا من المثقفين، نالهم ما نالهم من هيمنة الغرب على فعلهم السياسي، الشيء الذي جعل بعضهم اليوم، يبدون وكأنهم في ركاب الغرب ضدّ فئة أو فئات سياسية؟
وجود الإسلام اليوم كعنصر للدفاع وردّ الفعل جعل الليبراليين والعلمانيين، وكأنهم في نفس خط الغرب. في السبعينات، لم يمسّ المثقفون ثقافة غربية، الدّين. لكن في «ماي 68» جاؤوا ومسّوا الدّين، فحدث صراع ليس مع الغرب فقط بل ما بين وطنيين محافظين وبين الغرب وفئات داخل بلداننا مسّت الدين. هذه النخبة أصبحت خارج الدائرة وفي وضع المتهم.. المشكل عندنا نحن العرب يتمثل في «الكتلة التاريخية «Le Bloc Historique» ما دام المثقف ثقافة غربية، وعالم لا يعلم عن الاسلام والتاريخ شيئا، فهو بذلك يفشل. المثال في ذهني الآن، هو مثال «ابن رشد» فهو أكبر من استطاع أن يفهم «أرسطو» وهو (ابن رشد) أكبر من كتب في الفقه الاسلامي، كما لم يكتب غيره أبدا. في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه، نجد أن ابن رشد جمع المذاهب الأربعة، وبيّن لماذا يختلف هذا عن ذاك من خلال طرح مسائل علمية وبعلمية.. هذا الاطّلاع العميق على الفلسفة اليونانية، نجده أيضا عند «الغزالي» في وقت ما ومرحلة ما من حياته.. أقول باختصار، المثقف، يجب أن يكون مطّلعا على العالمين الفكريين الغربي والعربي الإسلامي.. حتى إذا ما تناقش مع خصم يعرف كيف يتحدث.. ففي «تهافت التهافت» الذي ردّ فيه ابن رشد على الغزالي الذي بدوره كتب في نفس الموضوع.. قال «ابن رشد» للغزالي: أنت يا رجل تقوّلهم (المعتزلة) ما لم يقولوا أو تفهمهم غير الفهم الذي فهموه من أنفسهم، وهذا ليس من العدل في شيء، وإنما العدل أن يلتمس الرجل لخصمه من الحجج مثلما يلتمسها لنفسه». كان الموضوع عن المعتزلة، الذين وصلوا إلى ما توصّلوا إليه عبر آلية، كشفوها منذ البداية.. هنا، أقول إنه على المفكر أن يعرف الطريقة والآلية عند الخصم ليتعامل من خلالها في التقدم ثم يأتي بالآلية الأخرى.. المشكل في مثقفينا أنهم يستوعبون آلية، ويريدون اسقاطها على الواقع الذي يطمحون إلى تغييره، فإذا بالنتيجة كما نرى ونشهد الآن..
مازال الحديث الفكري متواصلا مع د. محمد عابد الجابري، ومازالت الأسئلة والأجوبة، تحوم كلها حول الواقع العربي، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، أو في مستوى العالم العلوي الفكري المحض أو العالم السفلي المادي الملموس..
فإلى الجزء القادم في مثل هذا الركن، حيث يتحدث الجابري عن أخطاء المثقفين والمنظرين العرب بين محو السائد محوا إلى نفي الآخر.. كما يتحدث عن صدام وبوش، وعن الرابح الأكبر من تدمير العراق.. كذلك يكشف الجابري ما أسماه بأحقاد الصهيونية والروح الانتقامية عند بوش الابن..
حوار : فاطمة بن عبد الله الكرّاي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.