أصبح الغناء الشعبي يحتفظ بمكانة منزوية في أذهان التونسيين وفي الذاكرة الشعبية وينظر إليه على أنه فن بدوي أخذ شكل الفولكلور... في هيئته المتخفية... وهو اليوم يقف في مفترق الطرق.. هل يدخل المتحف وتبدأ رحلة اندثاره ويصبح فنّا لقلة من الشيوخ والعجائز أو الباحثين المختصين... أم ينفض عنه غبار السنين ويعود الطبل والزكرة الى أوجهما يدويان في الأعراس والحفلات؟ في إحدى منوّعاته خصص فتى شارع الحرية المدلل لطفي البحري سهرة كاملة على قناة تونس 7 للغناء الشعبي حيث استفاق فيها العديد من الأسماء التي اختارت هذا اللون وفي تقديمه ان لم تخنا الذاكرة أشار لطفي ان هذا النوع من الفن الموسيقي بقي مهمّشا.. وله أسبابه... لأننا إذا امعنّا في واقع الموسيقى التونسية لدينا نلاحظ انزواء الغناء الشعبي في ركن قصي منه.. وكلامنا هذا لا يشمل المزود رغم انه يتنزل في نفس الخانة لأن المزود أخذ حظه وزيادة ومايزال ينال من الاهتمام وإنما المقصود به الغناء الذي تعتمد موسيقاه على الطبل والزكرة الآلتين الرئيسيتين والوحيدتين في الفرقة... وهذا النوع التقليدي رغم انه يجتمع مع المزود في كونهما ينبعان من نفس المنبع ونعني به التراث الا انه يختلف عنه من حيث التركيبة وعدد العازفين إضافة الى أن المزود طالته يد الحداثة فأصبحت فرقة «المزاودية» تضم عازفين على الكمنجة والأورغ، وغيرهما من الآلات الوترية الأخرى.. بينما ظل الطبل والزكرة في صمود مستميت ولم يقبلا مرادفا لهما أبدا... وصمود هذا النوع من الغناء والموسيقى الشعبية التقليدية في وجه الزمن وزحف الموسيقى الحديثة من أهم الأسباب الى فتح نافذة عليه لمعرفة مدى اهتمام الناس به ومن هم مريدوه؟ لكل جيل لونه في تقسيم مبسط لأنواع الموسيقى التونسية الى أقسام كبيرة بإمكاننا ان نصنف الغناء بمصاحبة فرقة وترية لسكان المدينة... والغناء بمصاحبة المزود يلقى اهتماما من أهالي الريف... أما الغناء بمصاحبة الطبل والزكرة فهو للبدويين... فهذا التصنيف كان لسنوات عديدة هو السائد.. اما الآن ونتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية.. والفكرية والثقافية.. ونظرا للتطوّر الكبير الذي شهده المجتمع التونسي فقد تداخلت هذه التصانيف وأصبحت كل هذه الانواع تستهوي جميع الفئات لكن بدرجات تفاضلية لعل أدناها الغناء بمصاحبة الطبل والزكرة.. وتدني الاهتمام بهذا الغناء التقليدي يمكن تفسيره بأن الرغبات الفنية تغيّرت.. فمثلما اختفت الأغنية الطربية الطويلة لتحل محلها الأغنية«السندويتش» كذلك فإن الغناء التقليدي لم يعد يستهوي الكثيرين أولئك الذين مازالوا يحتفظون ببعض الحنين لهذا النوع كما ان قلة الاهتمام من الموسيقيين والغناء التقليدي ساهم في اهماله وعدم لفت الانتباه إليه... وقلة الاهتمام هذا أفرزت فنّا مرتجلا لا يخضع في مجمله الى قواعد موسيقية متينة. «اي كعْورْ واعطي للأعْور» او ما يسمى «بودورو» وإنما هي تخضع لذوق «المغني».. (...). مطعمة بأجزاء من التراث اي بعبارة أوضح «سوّد وجهو ويقول هو فحّام» لتوظيفها في مناسبات معينة.. ولعل ذلك من أهم أسباب التشابه والتطابق في العديد من النماذج التي نستمع إليها كما أنها تسببت في توتر العلاقة بين المغنيين فكل يرى نفسه بطلا... وكل يتهم زميله بالسطو على أغنيته «الماسطة» التي خرجت لتوها من «حجّامة» نهج السودان. الارتجال... ثم الارتجال فالأغنية الفولكلورية كمؤلفة شعرية وتركيب لحني إنما هي ابداع تقليدي يمتاز ببساطة تكوينه وبما انه سهل في أدائه وتداوله يستطيع اي فرد او مجموعة أفراد ان يؤدوه ويناقلوه ويشاركوا في أدائه... وتتميّز الأغنية الشعبية على ان لحنها يكون مشتقا من التراث الشعبي التقليدي.. والنص الشعري احيانا يكون كذلك وان كان اليوم اصبح هناك بعض التآليف الجديدة في الكلمات في شكل محاولات تحاكي التراث... وألحان الأغنية التقليدية لا تؤدي بمصاحبة آلتي الطبل والزكرة فقط ولكن قد يتداخل معها أداء صوتي يكمل العزف او إيقاعات بالتصنيف... كما انه ليس هناك قواعد موحدة في صنع الآلات فإعداد الجلد الذي يشدّ على الطبول.. يتم بطرق مختلفة حسب امكانات وخبرة الصانع ومهارته الشخصية.. ذلك ان تصنيع هذه الآلات شأنه شأن العزف عليها يتم على أساس مرتجل او على الأقل لا تجد ضوابط موحدة تحكم تصنيع هذه الآلات مثلما تناهى لنا بعدما تحدثنا الى بعض صانعي الطبل والحرفيين الذين قل عددهم اليوم بسبب ندرة إقبال المشتغلين على هذه الآلة وقلة انتشار هذا الفن لانحسار جمهوره كما أكده لنا أحد الحرفيين.. وهو رأي لم يوافقه عليه زميل له يشتغل على آلة الطبل اذ يقول بأنه عمل في الفن الشعبي سنين طويلة بعد ان ورث المهنة عن والده.. وتعامل مع العديد من الفرق وجاب البلاد طولا وعرضا.. وبعد هذه التجربة فإن الإقبال على الغناء الشعبي مازال موجودا خاصة في الأعراس.. وفرق الفنون الشعبية مطلوبة جدا من قبل العائلات التونسية ولم يعد سكان الريف وحدهم من يحيون حفلات أعراسهم بالفرق الشعبية بل أن أهالي المدينة أنفسهم أصبحوا يفعلون ذلك.. ويحبذون فرقة شعبية لتحيي جزءا من حفلة العرس كتفويحة.. هكذا إذن اصبح الفن الشعبي موضة لدى البعض...!! للأسف. قضية الرواج الخلاصة ان الأغنية الشعبية اليوم تلقى الرواج المطلوب والمبيعات الخيالية لأشرطة الكاسيت لهذه النوعية من الأغاني خاصة في الأسواق الأسبوعية تدلّ على ذلك ولكنه يبقى رواجا مهمشا وغير مقنن بضواط معيّنة... العديد من الأسماء أفرزت العديد من الأغاني بعضها نابع من التراث وبعضها منسوخ و«ممسوخ» يحاول ان يحاكي التراث فأطربه من ذلك أغنية «ياما وجعتوها» التي أساء إليها لطفي جرمانة وحولها الى أغنية راقصة.. و«على الله» التي أبدع في أدائها بلقاسم بوقنة فجعلت منها إيمان الشريف «صابونة» لغرف الاستحمام.. إنها المهزلة ورغم ذلك يصر الجمهور على سماعها بصوت إيمان!! أما أمينة فاخت «فخلو عزاها سكات».. لقد فاقت برامج الواقع في قبحها... بدعوى تهذيب التراث وتحسينه الا انه تحوّل الى ركاكة فنية شوّهت صورة الماضي والحاضر معا.. فلا ذوق فني او مستوى جمالي.. لكن هناك فئة تحاول ان ترتقي بالأغنية الشعبية وتطويرها لتحفظ لها مكانتها كأحد أهم ركائز الثقافة الشعبية لدينا ولكن هذه المحاولات تفتقد الى التأطير وقلة الاهتمام سواء من قبل الدارسين او من قبل الموسيقيين الذين لا يلتجئون الى الفنانين الشعبيين الا للاستعانة بهم في عروضهم الكبرى مثلما حدث في الحضرة والنوبة او في عرض افتتاح مهرجان قرطاج في إحدى دوراته عندما استعان عبد الرحمان العيادي في عرض مائة عام من الموسيقى بعدد من العازفين على آلة الطبل.. وهو أمر كثير ما يحدث مع بعض الموسيقيين والمطربين فظل الفن الشعبي تابعا وآلاته من المتممات لا فن قائم بذاته... كما يجب ان لا ننسى الدور المهم الذي قامت به التلفزة التونسية في وقت من الأوقات حين خصصت حصة اسبوعية تعنى بالفن الشعبي بكل مكوّناته حيث سافر بنا معد البرنامج ومخرجه سي أحمد حرز الله في ربوع تونس من أقصاها الى أقصاها وقدم للمشاهد ملاحم حقيقية من الفن الأصيل في «ديوان الفن الشعبي» يا حسرة.. يا زمان.. نحن لا نرفض اطلاقا هذا التكامل بين الموسيقي التقليدية والحديثة ولكن ندعو الى مزيد الاهتمام به وبالأغنية الشعبية او ما اصطلح على تسميته بالفولكلور وذلك عن طريق الباحثين والمختصين من الخيرات الفنية والثقافية التي لدينا وفتح المجال لتنظيم الميدان بجعل الأغنية الشعبية موضوع احدى مسابقات ايام قرطاج الموسيقية مثلا او تنظيم مسابقات أخرى مستقلة بذلك تختص في هذا النوع من الأغاني خاصة وهي تستهوي العديد من الشباب... وقد ذهب في ظننا ان ابنة الشمال وردة الغضبان ستعيد للأغنية الشعبية حضورها القوي وللتراث نكهته لكن «السندريلا» (...) جرفها تيار الشهرة فتاهت في أزقتها الحالكة بالظلمة وسرعان ما لفها النسيان ولفظتها الذاكرة بعد ان أصبح فنها نوعا من الميوعة وفن «عرابن» فهي لم تكن فنانة بالمعنى المتعارف عليه بل هي ظاهرة طواها صقيع الليالي والأرصفة... وبات حضورها باهتا في المهرجانات الصيفية حتى أنها وقعت في فخ الاستهانة بالجمهور وخرجت من قشرتها عندما غنت في مهرجان فرنانة صائفة 2007 مخمورة!!! فالجمهور التونسي متعطش وبه حنين كبير للاستماع الى الفن الشعبي التونسي والفولكلور الوطني وأن «الطبل» و«الزكرة» لهما وقع خاص على أذان المستمع... وقْع فيه من التعبيرات الموسيقية ما يدل على أن الأغنية الشعبية عندنا ستظل تتداخل في شبكة لا متناهية من علاقة الانسان عموما... بالتعبيرات الروحية مهما طالتها يد التحديث ومهما تطوّرت الموسيقى. ويبقى اسماعيل الحطاب هو أبو الأغنية الشعبية وعبد اللطيف الغزي الذي اعطاها دفعة جديدة وأحيانا بطابعه البدوي الخاص... الى جانب الفنان الهادي حبوبة الذي يعتبر واحدا ممن حافظ على كلاسيكيته. فلا فاطمة بوساحة ولا زينة القصرينية او حتى أمال علام ساهمت في التراث حظا من اهتمامهن.. فكل أغانيهن ليست من النوع الراقي المريح للقلب والفكر معا..!