الكيلاني بن منصور (أستاذ باحث في ماجستير الأدب) [email protected] المادة الاعلامية التي تنشرها بعض المواقع والمنتديات كثيرة ومتنوعة جدا، لكن الخبر اليقين والصحيح والمستند الى معطيات تاريخية قليل جدا. ومن تلك الأخبار ما هو متصل بمجال الصحافة المتخصصة في العالم العربي. فقد تابعت على الشبكة نشرات كاملة تتحدث عن إصدار مجلة متخصصة في شؤون المكفوفين الثقافية والاجتماعية والتربوية، وهذا حقا يثلج الصدر ويفتح الآفاق الرحبة أمام هذا القطاع، لكن ما لا يبعث على الارتياح هو أن كثيرا ممن أصدروا مجلات خلال السنوات الأخيرة في أماكن مختلفة من الوطن العربي يقولون بأنهم أصدروا مجلة هي الأولى من نوعها في العالم العربي وأن الصحفي الفلاني هو أول صحفي كفيف في العالم العربي، الى غير ذلك من الاخبار والتعاليق. لقد قرأت الخبر في أكثر من مكان ثم ورد بنصه عبر بريدي الالكتروني، أقلقني كثيرا وأسعدني. أما مبعث السعادة فيعود الى مساندتي لكل صرح إعلامي يتخذ من خدمة المكفوفين هدفا رئيسا من أهدافه أما القلق فقد تطور الى غضب حقيقي إزاء الادعاء بأن هذه الجهة أو تلك قد أصدرت أول مجلة متخصصة في العالم العربي. والحقيقة التي لا يعرفها هؤلاء، والتي لنا عليها أكثر من حجة تتمثل في أن تونس كانت ولا تزال في طليعة الدول التي احتضنت المعوقين عموما والمكفوفين خصوصا وساعدتهم على أن يكونوا مواطنين متميزين مبدعين. فثاني مجلة متخصصة في شؤون المكفوفين هي مجلة تونسية لحما ودما. ليس هذا فحسب بل أن مديرها كفيف تونسي،والمحرّرين أغلبهم من المكفوفين التونسيين. وقد وجدت نفسي فريسة لسؤال أكثر دقة وأكثر صلة بالثقافة الوطنية التونسية، ببساطة قلت في نفسي هل يعلم المؤرخون لثقافتنا التونسية هذه الحقيقة المغمورة رغم أنها حقيقة مشرفة، هل يعلم الكفيف التونسي أن تاريخه الثقافي ثري ومشرف. هل يعلم الجميع أن تونس العظيمة احتضن صدرها الحنون مجلتين رائدتين في الثقافة والشؤون الاجتماعية انتجهما بكل حرفية ومقدرة ثلة من المناضلين المكفوفين التونسيين في ذلك الوقت الذي كان فيه الهاجس الكبير هو القضاء على الأمية المتفشية عقب الاستعمار. وكان في طليعتهم شيخ الأدباء المكفوفين أحمد الحمداني المطوي الذي عاش مناضلا من أجل الثقافة والديمقراطية، ومدافعا عن قضايا المكفوفين وقضايا المرأة التونسية. وقد رحل عنا رحمه اللّه منذ أشهر دون أن يشعر برحيله أغلب الذين كرّس حياته للدفاع عنهم وخدمتهم، لكن المطوية بقيت تحتفظ بذكرى ابنها العلامة وقد قام بتأبينه الشيخ أحمد بن التيجاني حمودة حسب الوثيقة التي أمدني بها الصديق الناصر يحيى من المطوية مشكورا. حياته ومنجزاته ولد أحمد الحمداني المطوي يوم 15 جانفي سنة 1937 وتوفي يوم 13 نوفمبر 2009، تحصل على شهادة الأهلية بتفوق سنة 1949، وشهادة التحصيل سنة 1953، ثم بعدها نال التطويع والعالمية سنة 1957، وهو أصيل بلدته المطوية تلك البلدة التي كانت ولا تزال عرينا للرجال الذين أسهموا في الثقافة الوطنية التونسية إسهاما بالغا. نذكر منهم: محمد لعروسي المطوي، البشير الرقيقي، عادل خضر، محمد علي جراد، عبد الجليل سالم، عمر بنّور، عبد المجيد بن طاهر المطوي، محمد الصالح جراد المطوي، البشير البكوش، أحمد الحمداني المطوي، الطاهر علي عمران، محمد الهادي المطوي، سمير العياري، محمد الحبيب بن سالم، يحيى محمد وعمر بن سالم. هي بلدة زاخرة بطاقة جبارة من الرجال والنساء الذين كان لهم الدور البارز في بناء تونس الخضراء فقد رفعت سواعدهم رايتها خفاقة في كل مكان. ويحتل المرحوم أحمد الحمداني موقعا مميزا ضمن هؤلاء الأعلام الكبار من أدباء المطوية فقد وقع تدوين اسمه ضمن أدباء المطوية. وكان أول من ذكره يوسف المؤذن ضمن كتابه «عالم النور» الصادر بتونس سنة 1968 بقوله ص. 31: (وهناك أخ كفيف له حظ كبير في الثقافة العربية، كما له ضلع في تكوين النواة الأولى لجمعية الطالب المكفوف والاتحاد القومي للمكفوفين، كما عمل كثيرا من أجل قضية الكفيف وكتب مقالات عديدة في الصحف التونسية، وألّف كتاب «المرأة في نظر الاسلام الحق» وهو مدير مجلة «كفيف المغرب العربي» وأخيرا ألف كتاب «في ظلال الوفاء».. وقد تكرّر ذكر أحمد الحمداني في هذا الكتاب أكثر من مرة اعتبارا لأهمية إسهامه في تأسيس الجمعيات الخاصة بالمكفوفين. فقد كان ضمن الهيئة التأسيسية لجمعية الطالب المكفوف سنة 1954 حيث اضطلع بمهام نائب الكاتب العام رفقة السيد محمد الراجحي أطال اللّه بقاءه. وكان معه ضمن نفس الهيئة شيخ أدباء المطوية أستاذنا محمد لعروسي المطوي الذي تولى أمانة المال في تلك الجمعية. وقد عمل الأديب أحمد الحمداني ومحمد لعروسي المطوي على نشر الوعي بقضايا المكفوفين عبر المقالات التي كانت تنشر في جردة «الصباح» التونسية خاصة. وقد وجدت مقالاتهما الصدى الواسع. وقد ذكر يوسف المؤذن ضمن نفس الكتاب أن جريدة «الصباح» قد ساندت نهضة الكفيف التونسي من خلال نشرها لمقالات الرجلين ابني المطوية، وقد كان المرحوم الهادي لعبيدي على رأس المشجعين لهذه الاستفاقة التي شهدها الكفيف التونسي. ولقد كان الشيخ أحمد الحمداني في طليعة المنادين بتوحيد صفوف الجمعيات الكثيرة التي تتحدث باسم المكفوفين وقد تحقق الحلم وتوحدت تلك التشكيلات وكونت ما عرف سنة 1956 باسم الاتحاد القومي للمكفوفين بالبلاد التونسية حيث كان أديبنا نائبا للكاتب العام الأستاذ محمد الراجحي ضمن الهيئة التأسيسية التي ترأسها العميد الأستاذ الطيب الميلادي رحمه الله. لقاء أحمد الحمداني بعميد الأدب العربي طه حسين زار طه حسين تونس سنة 1957، حيث حظي باستقبال كبير في الجامعة الزيتونية وقد كان حلوله بالزيتونة بحضرة عميدها العلامة الطاهر ابن عاشور حيث أقيم لقاء كبير بين الطلبة وعميد الأدب العربي. وقد كان أديبنا أحمد الحمداني أبرز الحاضرين في ذلك اللقاء التاريخي، حيث وقع منحه جائزة لتفوقه في شهادة العالمية بدرجة امتياز. «وكتب أحمد الحمداني المطوي تحت عنوان «رسالة مكفوف: أستاذي الجليل الدكتور طه حسين»: «إن قلوبنا تهدينا الطريق المستقيم وتسمو بنا حيث الاشراق المتألق والحق الناصع المبين والجمال الصافي من أدران الشرور وآثامها والخير الطاهر من أنانية الانسان. على هذا الأساس القوي عرفتك، فكان اللقاء جيّاشا واللّه يعلم وحده كم كان سروري عظيما. لقد أتيح لي أن أقرأ «أيّامك»، فوجدت فيها نفسي ماثلة تترجم عنها بقوة عارمة وأسلوب مؤثر لا سيما وأني أقبلت على قراءة هذا الكتاب وأنا صغير السن لم أكد أعرف الحياة، فمنه اطلعت على أساليب الناس وأفانينهم فيما يخترعون والله يشهد أن «الأيام» حبّب إليّ النضال في سبيل المعرفة، وإذا الأقدار تفاجئني على حين غفلة مني فتأتي بالدكتور طه حسين إلى تونس، يسعى سعي النور خفيفا، وإذا هو يقدم إلي بأدب ووقار في حفل كريم موقر هدية المعارف كجائزة لامتحان شهادة العالمية». وبالعودة إلى بعض الوثائق التي عثرت عليها ضمن البحوث التي أجريتها بقسم الدوريات بدار الكتب الوطنية عثرت على بعض الصور الشمسية التي يظهر فيها شيخ الأدباء المكفوفين يتسلم مجموعة من الكتب من يد طه حسين، ويظهر في تلك الصور الزعيم بورقيبة، وهو لعمري دليل على قامة أحمد الحمداني في الثقافة العربية كما ذكر يوسف المؤذن ضمن شهادته في كتابه «عالم النور». أثاره المدونة لا بد من الاشارة إلى أنه يصعب علينا حصر آثار المرحوم أحمد الحمداني المطوي، فالرجل قد كتب مقالات كثيرة ومتنوعة بالصحافة التونسية وخاصة بين سنتي 1955 و1960، ولا بد لنا من بذل جهد تجميعي لهذا الارث الثقافي في مرحلة أولى، ثم القيام بتحقيق تلك المقالات وتصنيفها حسب أغراضها أو حسب تاريخ صدورها أو حسب قيمتها المرجعية. على أن ما يهون علينا بعض الصعاب هو أن أحمد الحمداني قد قام بإيداع قانوني لأهم ما كتبه في حياته سواء الكتب أو المجلات المتخصصة. وبالعودة الى الفهرس الرقمي للمكتبة الوطنية التونسية نجد أن الحمداني قد ترك لنا الآثار التالية: 1) الوفاء: مجلة ثقافية دينية تصدر كل ثلاثة أشهر. دورية التجميع من سنة 1968 الى سنة 1973. 2) كفيف المغرب العربي: مجلة اجتماعية أدبية تصدر كل شهرين. دورية التجميع من 1960 إلى 1967. 3) المرأة في نظر الاسلام الحق، نشر البشير بسباس بدون تاريخ، وبما أن يوسف المؤذن ذكره في كتابه عالم النور الصادر سنة 1968 فيكون كتاب الحمداني بعد تلك السنة. 4) المرأة في نظر الاسلام. تونس، مطبعة تونس، دون تاريخ. 5) في ظلال الوفاء تونس، المطبعة العصرية 1967. إن جملة هذه الأعمال التي عثرنا عليها في تلك الرفوف الأمينة والصناديق المحكمة الغلق تعكس بكل جلاء موسوعية شيخ الأدباء المكفوفين التونسيين أحمد الحمداني المطوي الذي يحق لنا أن نعتبره دليلا على تجذّر الحسّ الثقافي والنضج الفكري لدى ثلة من المكفوفين انخرطوا في النضال من أجل قضاياهم العادلة واندفعوا نحو ممارسة الحياة العامة بكل ثقة في إمكاناتهم وقدراتهم التي تحقق الاضافة النوعية لمعركة المجتمع التونسي ضد الأمية والتخلف وبناء المجتمع الحديث في تونس الجمهورية الفتية في تلك الفترة من التاريخ الوطني. وسوف نكشف ضمن الدراسة الموالية القضايا التي طرحها هؤلاء المكفوفون عبر مقالاتهم المنشورة في مجلة كفيف المغرب ومجلة الوفاء اللتين أسسهما مديرهما صاحب الامتياز أحمد الحمداني المطوي..