في غاب خفيف، وسط شجر غير كثيف، تتلوّى مسارب حجريّة صاعدة هضبة منتزه النّحلي نحو مقصف بطابقين، أسفلهما مقهى انتثرت موائده بين الشّجر، وفي الأعلى قاعة احتفالات أنيقة محاطة بشرفة عريضة مطلّة على الشمال والشرق. غصّت القاعة بوجوه شباب مبتهج فرح بحاله، وشابّات من ذوات الأجساد الفتيّة الكاملة أشرق حسنهنّ في فساتين الحرير والساتان والطفطة والكريب دي شين، امّا محاطة بالدّانتيل، أو منثورا عليها الألوان والأزهار. وعبق المكان بعطور الشانيل وسان لوران ورابان، فكأنما الزّهر داخل القاعة وليس في الحديقة، أخذ الجميع أماكنهم دون ضجيج، ما عدا لغط خفيف ووشوشات هامسة، تتخللها قزقزة الكعوب العالية تنبّه الى وجود أقدام رقيقة أظافرها الأرجوانية تطلّ من شبابيك الأحذية الصيفية. في هذا الجوّ دعيت الى تقديم كتاب عن « أغاني الزّمن الجميل» لجمهور من عشّاق الموسيقى الطّربية، والعارفين بها، أغلبهم من تلاميذ مؤلف الكتاب وزملائه، وفي تصوّر بعض من رتّبوا هذا الحفل أنني بحكم علاقتي بالكتب والكتابة أقدر الحاضرين على تقديم هذا التأليف. وهو عمل وضعه مدير معهد خاص للموسيقى، أبلى في هذا الميدان بلاء حسنا، وتربطه بالأوساط الفنية روابط عديدة، هذا بالاضافة الى تخريج معهده لعدد كبير من هواة الفنّ، و ذوّاقة الموسيقى الرّاقية، وهم أغلب الجمهور الذي يملأ القاعة . فوجئت بالأمر، لأن الندوات التي اعتدت حضورها لتقديم كتاب أو مناقشة قضايا فكرية لا يتجاوز جمهورها العشرين نفرا ممن يبتسمون نادرا ، و لا يبدون اهتماما كبيرا بأناقتهم ولا بجودة المكان، الذي غالبا ما يكون قليل الاضاءة شحيح الهواء، كأن يكون كهف دار الثقافة، أو أحد أندية الضواحي القريبة أو البعيدة. وأتذكّر أنّ آخر جمع حضرته التأم بمكان سمحت به احدى المؤسسات الكبيرة لتقديم محاضرة عن « العائلات الأندلسية» هو قاعة أكل التلاميذ، فكنّا نستمع الى المحاضر ة في جوّ من رائحة المرق اللّذيذ. وهكذا أخذا بالخاطر تورّطت أنا الجاهل بعلم الموسيقى ودقائقه في تقديم كتاب عن الموسيقى لا أفهم محتواه الى جمهور عارف بالموسيقى ذوّاق لأنواعها. فاضطرّني الحال الى ارتجال كلمات عامّة عن علاقة الفنون بعضها ببعض، وعن اكتمال الرّوعة عند ما يتظافر لحن جميل مع شعر بديع وأداء ساحر. وأحلت المصدح الى المؤلّف ورفيقين له ليشرحا مضمون العمل وجهد صاحبه في انتقاء محتواه وتوثيقه بالكلمة والنّوتة الموسيقية، فجاء في صيغة منتخبات من الأغاني التي أطربت جيل الخمسينيات والستينيات وجعلته يغرم بأصحابها من أمثال محمد فوزي، وعبد المطّلب، وليلى مراد وغيرهم من مشاهير ذلك العهد. لم يأخذ التّقديم جميعه أكثر من ثلاثين دقيقة، ثم دعي الحاضرون الى اقتناء نسخ بتوقيع المؤلف، فازدحموا حوله واشتروا كامل النسخ المتوفّرة، قبل الخروج الى الشرفة. وقد تمّت الأمور بسرعة لم أعتد عليها عند حضوري تقديم كتاب أدبي أو فكريّ، حيث الساعتان لا تكفيان للاستماع الى كلمات التقريظ المكرّرة والمعادة، والى التعليقات الجوفاء لمن لم يطّلعوا بعد على الكتاب، وينتهي الموكب بأن لا يشتري النسخ المعروضة الا مجاملون قلائل. في الشرفة المطلّة على الغاب كانت في انتظار الضيوف موائد عامرة بأطيب ما يؤكل وألذّ ما يشرب، وما أبعده عمّا تعوّدت عليه في النوادي الثقافية، وهو ليس سوى كأس شاي بارد يأتي به الحاجب من المقهى القريب، أو جرعة ماء دافئ أتناوله في كوب بلاستيك من مائدة المحاضرين ان كنت قريبا منها . أفرغت الموائد من محتواها بين ضحك ومرح، ودارت الأحاديث همسا في حلقات صغيرة فيما انتصبت فرقة موسيقية في أحد الأركان وبدأت تعزف بعض البشارف القديمة، واذا بالجماعة يميلون ناحيتها وينجذبون اليها فرادى وأزواجا لحسن الانصات. لكن ما ان عزفت الفرقة ألحان الأغاني المتداولة والمشهورة حتى ترك النساء ما انشغلن به وأحطن بالعازفين. ولما سمعن فالس ليلى مراد الشهير: «أنا قلبي دليلي» ارتفعت درجة النشوة في الأصوات الناعمة، وتكوّن منها كورال فيه عشرون ليلى مراد يهتف بصوت واحد منسجم وكأنه تدرّب على الأغنية مائة مرّة: «شايفاه.. آه.. آه في خيالي/ سامعاه.. آه.. آه بيقول لي / يا حياتي.. تعالي.. تعالي.. تعالي». وتعاد «تعالي»، وتكرّر، وتمطّط متباطئة على مشارف الشفق الأرجواني، و الغروب يلفّ المنتزه الهادىء. خفت من عودة الحنين ومن رعونة الصّبا أن يوقظها ذلك النّداء الملحّ، فسحبت رفيقي وعدنا ننزل المسارب الحجرية كالحالمين، يلاحقنا اللحن البديع متواصلا «تعالي.. تعالي».. يستثير فينا أشواقا خمدت أو تكاد. ذكّرت صاحبي ونحن في الطّريق بمنتدياتنا وحفلات امضاء كتبنا، متندّرا بمقارنة ما لا يقارن، مختتما بالقول: «ما أحلى الحياة.. أحيانا». فأجابني متنهّدا: « للّي عايشينها..».