[email protected] (1) ضمن البرامج الدينية التي تزدحم بها شاشاتنا الفضائية العربية ازدهرت منذ مدة مواضيع الحديث عن الإعجاز القرآني ،وهي مواضيع تحاول التأكيد على أن النص القرآني قد حوى كل أسرار الكون المرئي واللامرئي من خلال تقنية استعراض الحقيقة العلمية وثبوتها في النص القرآني. ويستعين معدو هذه البرامج الدينية بفقهاء ومفسرين وبعض من المختصين في موضوع الإعجاز القرآني ليبينوا هذه الحقائق ببلاغة وأداء بلاغي مذهل تكون خاتمة القول فيه « سبحان الله». (2) ومن المفارقات العجيبة أن خطاب الاستدلال عند هؤلاء الفقهاء والمفسرين المختصين في الإعجاز القرآني يقوم على بسط واستعراض أحدث الاكتشافات العلمية الغربية الدقيقة في مجال البيولوجيا وعلم الأجنة والجيولوجيا وعلم الفضاء وغيرها من المجالات ثم التدليل عليها بآية من آيات القرآن، والحال أنه كان من الأجدر أن يكتشف هؤلاء الفقهاء هذه الحقائق على أرض التجربة والواقع ثم السماح لأنفسهم بالتدليل عليها في القرآن، أو القيام بعملية عكسية تتمثل في الإنطلاق من القرآن والكشف عن دلالته وأسراره والذهاب انطلاقا من هذا التفسير إلى إكتشاف الكون. (3) شاهدت مؤخرا حصة من الحصص الدينية في إحدى الفضائيات العربية يتحدث فيها الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي عن الإعجاز في القرآن من خلال ذكر البعوضة. والشيخ النابلسي من الشخصيات الإسلامية المشهورة كما تعرفه الموسوعة الحرة ويكيبيديا وأحد علماء الدين المعاصرين، ورئيس هيئة الإعجاز القرآني، وقد بين في حديثه أنه بعد إكتشاف المجهر الإلكتروني تبين للعلماء أن للبعوضة مائة عين وثمانية وأربعين سنا وثلاثة قلوب وفي كل قلب أذينان وبطينان، قلب مركزي وقلب لكل جناح، ولها خرطوم فيه ست سكاكين أربعة منها لإحداث مربع الجرح وسكينان كالأنبوب لامتصاص الدم ولها أجهزة لا تملكها الطائرات : جهاز لتحليل الدم وجهاز لتمييعه وجهاز للتخدير وجهاز للإستقبال الراداري... وينتهي حديثه في نهاية الأمر على توافق هذه المعطيات العلمية حول البعوضة مع آية من آيات القرآن ويختم الحديث ب «سبحان الله» كخلاصة للقول وينتهي الموضوع أمام دهشة الحاضرين في البرنامج... وقد أهمل الفقيه في حديثه كما تأمرني نفسي الأمارة بالسوء الحديث عن المجهر الإلكتروني الذي اكتشف كل هذه التفاصيل الدقيقة في جسد البعوضة والذي لا أعتقد أنه إبتكار سني أو شيعي. (4) ولا تكاد تخرج هذه البرامج الدينية المختصة في الإعجاز القرآني على ما أسسه منذ سنوات الراحل الدكتور مصطفى محمود في برنامجه الشهير «العلم والإيمان» والذي بلغ 400 حلقة تدور كلها حول التعليق على أشرطة وثائقية في الطبيعة حول الحياة البرية والبحرية، بأسلوب إيماني سبحاني، وهي ذات البرامج التي شهدتها الأجيال في العالم العربي وعطلت النظر في الطبيعة والعلم والبحث والاستكشاف والابتكار والتجربة والتقدم باسم الاكتفاء السبحاني والإعجاز القرآني، بل أعطت هذه البرامج بشكل لاواعي لجيل كامل من المنتسبين للحركات الإسلامية السياسية الحجة على مناوءة كل نفس أو اجتهاد تقدمي وضعي أو تجريبي وخلقت عقولا لا تكاد تنظر للواقع إلا من خلال الذهنية الدينية المندهشة أمام المعجزة والإعجاز . ومن المفارقات الخطيرة الأخرى أن مثل هذه الأطروحات الدينية المتعلقة بالإعجاز القرآني في علاقته بالعلم تجد الآن رواجا منقطع النظير على الوسائط الإلكترونية، فنفس الحصة تبناها موقع إلكتروني تونسي، روجها في شبكة التواصل الإجتماعي « الفايس بوك» ويمكن الوقوف على أثر هذه البرامج في نفس المتلقي من خلال التعليقات التي لا تتعدى عبارات مثل «سبحان الله»، «الله الله»، «أستغفر الله وأتوب إليه»، «الله أكبر »، وغيرها من التعابير السبحانية التفاعلية... (5) وفي الشطر الثاني من الكرة الأرضية شاب رياضي روسي يدعى غريغوري برلمان Grigori Perelman يدرس الرياضيات في معهد ستكوف بسان بترسبورغ يرفض ميدالية فليدز La médaille de Fields التابعة للمؤتمر العالمي للرياضيات، والميدالية عبارة عن جائزة نوبل للرياضيات تقدر بمليون دولار، على إثر حله لمشكلة رياضية تعرف بمشكلة بونكاري La conjecture de Poincaré لم يستطع علماء الرياضيات مدة أكثر من قرن في حلها، ويبدو أن هذا الحل لهذا المشكل الرياضي المتعلق بالأرقام ستساهم في تطوير مجال المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال والتكهنات المناخية وعالم القراءة والتأويل الرقمي والإشارات السرية والتحليل المالي في البورصات وتحليل الحمض النووي الريبي ADN وغيرها من المسائل العلمية الدقيقة... سبحان الله.