جامعة تونس [email protected] حضرت مؤخرا «سيمينار» نظمته مؤسسة التميمي للبحث العلمي كان موضوعه تعريب العلوم، وقد بسط فيه الدكتوران أحمد ذياب وعبد اللطيف عبيد تجاربهما الشخصية وبعضا من إنجازاتهما ودراساتهما ومواقفهما من تعريب العلوم وخاصة من تدريسها باللغة العربية لطلبة الجامعة. ولفت انتباهي في نقاش هذه المسألة عدة نقاط لعل من أهمها: أوّلا: اتخذت تونس، كغيرها من بلدان المغرب العربي، قرارا مصيريا بتعليم العلوم باللغة الفرنسية لعدة أسباب لعل أهمّها محاولة النخبة ضمان كسب تونس لمعركة الحداثة، إذ تهيأ لهذه النخبة أن الطريق الوحيد للنهل من العلوم هو تعلمها ب«لغة العلوم» كما قال البعض. وقد حدثني أحد المواكبين لهذه القرارات عن تطوع بعض الإخوة المصريين والسوريين في بداية الاستقلال بالمساعدة على إرساء نظام تربوي تونسي على غرار النظام المتبع في المشرق وعن رفض الزعيم بورقيبة لهذا العرض وخاصة بداية من سنة 1965 بعيد زيارته للمشرق وخطابه عن قضية فلسطين في أريحا وترجيحه تدريس العلوم بلغة العلوم وأردف محدثي قائلا: الحمد لله أنه اتخذ هذا القرار وإلا لما آلت الأمور لما هي عليه الآن. وبما أن المجال لا يسمح بتقييم تكلفة هذا القرار التقييم الشامل بعد أكثر من نصف قرن على اتخاذه فإنّه توجب علينا أن نشير أننا، وإن لم نكسب معركة الحداثة بعد، فإن التحدي الأكبر الآن لم يعد الحداثة بقدر ما هو كسب رهان المعرفة بعد أن تحولت المعرفة إلى القيمة الاقتصادية الأولى، وأصبح إنتاجها المحرك الأساسي في الدفع بعجلة النمو والرفاء. لقد اختار جيل الاستقلال طريقا رأوه «مختصرا» للنهل من العلوم والمعارف و»مضمونا» لكي لا تنقص القيمة الأصلية للعلوم من خلال الترجمة ولكنهم لم يفكروا في تأثير تعلم العلوم بلغة أجنبية على إنتاج المعرفة في فترة لاحقة. لم تطرح مسألة إنتاج المعرفة قط، واعتُبر إنتاجها مسألة ثانوية مقابل التحكم بناصيتها أولا وأمرا بديهيا مقابل أمور أخرى مثل التحديث ونقل التكنولوجيا. إن المتفحص للإنتاج المعرفي التونسي في السنوات الخمسين المنقضية لا بد أن يلاحظ ضعفه وهشاشته وضآلته بغض النظر عن اللغة المستعملة في نشره. كما يلاحظ عدم ارتباط البحث العلمي بالواقع التونسي ارتباطا قويا لا في العلوم الصحيحة ولا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بالرغم من وجود التشجيع السياسي الدائم والمتصاعد على ذلك. لمَ لا ينتج «علماؤنا» معرفة ثمينة نطوعها في الرفع من مستوى الإنتاجية؟ هل يجب أن نطرح مشكلة اللغة التي تستعمل في تدريس العلوم وفي البحث العلمي طرحا علميا يتساءل عن الدور الحقيقي الذي تلعبه لا الدور المأمول أو المنتظر أو البديهي؟ هل يمكن أن يكون تعلم العلوم بلغة أجنبية عائقا للإنتاج المعرفي؟ هل يمكن أن ينتج تدريس العلوم بلغة أجنبية تقطعا في أوصال الباحث المعرفية لا يعيه ولا يعرف كيف يداويه؟ كيف نتوقع من البحاثين التونسيين أن ينتجوا معرفة تنفع البلاد والعباد ولم نمكنهم من حقهم في الانتماء اللغوي الذي يضمنه الدستور ويصرح به تصريحا واضحا لا غبار عليه؟ ثانيا: كثيرا ما يتبادر إلى ذهن النخبة أن لغة العلم واحدة وأن العلوم هي من الموضوعية بحيث لا يتغير أي جزء منها مهما اختلفت اللغات ولذلك لا يضير العلوم تنقلها من لغة إلى أخرى بينما تثبت العديد من الدراسات أن لغة العلم ليست بالكونية بل تتشكل وتختلف باختلاف الثقافات واللغات المستعملة لها. ولنا في الأبحاث حول السرطان في الصين أكبر مثال، إذ أن العلماء الصينيين لا يبحثون كيفية قتل خلايا السرطان والقضاء عليها مثلما يفعل العلماء الأمريكيون بل يحاولون إيجاد سبل تقوية مناعة الجسد ومحاربته للخلايا السرطانية مستمدين فلسفتهم تلك من تراثهم لا من لغة العلم «الكونية». ثالثا: نطرح مسألة اللغة طرحا عاطفيا، فنكثر الحديث عن ربط اللغة بالهوية وندافع عن اللغة العربية دفاعا مستميتا لنبين أنها يمكن أن تكون لغة علم، ويزعم البعض مزاعم خاطئة مثل قولهم إنها قادرة أكثر من غيرها أو إنها الوحيدة القادرة على الاشتقاق. ولعله من المفيد أن نذكر بأحد المبادئ الأولية في علم اللسان والتي تنفي تميّز لغة على أخرى وأن كل اللغات قادرة على تمكين مستعمليها من التعبير عن بغيتهم بمثل قدرتهم هم وتصميمهم على التعبير عنها. فلا توجد لغة أحلى أو أبلغ أو أقدر من لغة أخرى. فلعل هذا يكفي المدافعين عن اللغة العربية جهدهم المستميت في الدلالة عن بلاغتها. إن اللغة استعمال. وفي مقابل الشق المستميت في الدفاع عن اللغة العربية نجد جماعة أخرى لا يحبون العربية وتصيبهم هيستيريا لمجرد سماعها أو رؤية حروفها ويتملكهم اليقين أنها (أي العربية) لغة التخلف والرجعية، فيتنصلون منها تنصلهم من كل رموز الرجعية والتخلف. إن اللغة مواقف اجتماعية. وفي وسط هؤلاء وأولئك، نجد أغلبية لا تستميت في الدفاع عن العربية ولا في الهجوم عليها وإنما تستعملها وتحتاجها في حياتها اليومية ولا تجد لها بديلا ولا يريحها هذا التقطع في أوصال واقعها اللغوي بل يربكها وتقاسي أهواله في كل أمور حياتها. رابعا: كثيرا ما ننظر إلى اللغة على أنها وعاء نسكب فيه معارفنا وآراءنا ومواقفنا فلا يؤثر الوعاء على ما نسكبه بل يحتويه فقط. لكن تشير كل الدراسات أن اللغة تؤثر وتتأثر بالمجتمع. ولعله يجب أن نتدارس الواقع اللساني درسا علميا لا يستكين إلى الحلول الجاهزة المستوردة ولا يجعل لغير الحقيقة العلمية خيارا. خامسا: يجب ألا ننسى في خضم خوفنا على الواقع اللغوي واستشرافنا لغده أننا في غياب سياسة لغوية واضحة المعالم تستند إلى الدراسة لا التخمين وإلى التقصي لا استيراد الحلول الجاهزة أننا يجب ألا نأخذ القرارات اللغوية على أنها قرارات فردية أو قرارات نخبة. فخياراتنا اللغوية خيارات جماعية، وتفضيلنا للغة الفرنسية تفضيل جماعي لا يستند للمنطق بقدر استناده لرؤانا الاجتماعية حول ما هو «مجدي» وما هو غير مجد وما هو جائز ما هو غير جائز وليس لأصحاب القرار من فضل غير تثبيت الخيارات الجماعية. فهل حان الوقت لمراجعة خياراتنا اللغوية لتكون خيارات واعية مدروسة تضمن الأمن المعرفي الذي يقتضي توطين المعرفة وانتاجاتها؟