ما زلت أذكر ذلك المحل التجاري لعمي علي قارة ، المجاور (للجامع الصغير) الذي حبّسه أحد أجدادنا على المصلين، ذلك الحانوت أو العطار الذي كنت أراه في صباي بمثابة (سوبير ماركيت) في العهد الحاضر، وكلما تذكرته قفزت الى ذاكرتي تلك الورقة النقدية الجديدة جدا من فئة المائة فرنك التي دفعها نحوي الريح من حيث لا أدري بالقرب من ذلك الحانوت فلم أفكر في ذلك الوقت الا في أن أقتني بها منه (ستيلو) وهو قلم حبر جميل الشكل والألوان، في وقت كنا نكتب فيه بقلم نبريه من القصب على لوح الكتّاب، وكان من بين لداتي فيه ابنه رشيد الذي زاملته مع كثير من أندادنا في كتاب (عرفي الشايب) محمد بن حميدة، وكنت أراه أحيانا يَحِلُّ محل أبيه في ذلك (البازار) المذكور. وكلما حل فصل الصيف من كل سنة كنت ألتقي بالصديق رشيد بالقرب من (دار البحر) المجاورة لدارنا على شاطئ قليبية، حيث كنا نسبح مع الأسماك الملونة مثل الخضراية والبرقاش وصبع جوان والوزف وما اليها من الأسماك الأليفة التي نزاحمها في بحرها الفسيح وبالأخص في الأحواض المجاورة لمنازلنا والتي أصبح البعض منها كالديناصورات من الحيوانات المنقرضة . وكان مؤدبنا يلاحقنا من قليبية الى شاطئها ليُحفِّظنا بعض سور القرآن، وليَحْفظَنا من الغرق في البحر أو من (سلاّل القلوب)، وهو رمز لكل ما قد يتعرض اليه الأطفال من أخطار في تلك الآونة، أو من حرارة الشمس في تلك القيلولات القائظة في غفلة من أهلنا، ولسان حاله يقول: (قيلوا فان الشياطين لا تقيل) وكان يراقبنا حتى في سباحتنا الخارجة عن رقابة الأهل في البحر بطريقة ذكية ابتكرها، وذلك بأن يتذوّق أذرُعنا بلسانه، فينال كلُّ من وجد في ذراعه ملوحة عقابَهُ (بتحميلة تتمثل في وضع رجليه في الفلقة للضرب)، و(التحميلة) تسمَّى في العراق (البسطة) لأن الطفل (يبسط) على الأرض ويُضرب عقابا على عدم حفظه لوحته أو لسبب آخر مثل الملوحة التي تدلُّ مؤدبنا على أن ذلك الطفل قد عام في البحر، الى أن التجأ الكبار منا الى حل يتمثل في تحلية لحومهم بماء البئر الذي كان يوزعه (الكردغلي) على سكان ديار البحر على متن حماره، فكان يقوم بدور (السوناد) في زمن كان فيه الماء هناك، كما قال الشاعر: (الماء في دار عثمانٍ له ثمنٌ)، ورغم قلة الماء فقد كانت بعض النساء تستعمل الطاقة الشمسية لتسخين الماء لتحلية الأبدان من ملوحة ماء البحر بماء ساخن، قبل دخول الماء والكهرباء الى منازل قليبية بله الدّور القليلة بشاطئها، وكان ذلك التسخين بطريقة بدائية تتمثل في وضع الماء في (غسالية) من (الزنك) أو ما يسمى في مصر ب(الطشت) وتركه معرَّضا للشمس حتى ننتهي من السباحة فيكون نصيب كل واحد منا مقدار(كسرونة) لتخليص الجسم من الملوحة بدون تبذير، وكان رشيد قارة رفيقا لنا في سباحتنا وكُتابنا أثناء اقامتنا على شاطئ البحر كما كان رفيقا لنا في قليبية. لقد عرفت في كتاب (عرفي الشايب) بقليبية كثيرا من الرفاق مثل الحبيب بوزكورة وجميل بن رجب ومحسن شقيق رشيد قارة والمنصف ومحمد ابني عمهما محمود، وبالمناسبة فقد كان للصديق رشيد عمٌّ ثالث يدعى حميدة قارة، الذي كان يستعين على المشي بعكازين خشبيين لعجز قدميه على المشي، فكان يستطيع، بمساعدتهما، أن يمشي من منزلهم الى وسط قليبية بخفة وبراعة نادرتين. وبالمناسبة أود أن أترحَّم عليه، لأن الدروس الأولى التي تلقَّيْتُها في علوم العربية التي أعدّتني للانخراط في التعليم الزيتوني كانت على يده في الجامع المجاور لمنزله الذي حبسه جدنا الحاج عمر صمود، وصلة المصاهرة بيني بين رشيد ظاهرة لأنه ابن خالة الحبيب ابن عمي الذي تلقى معنا تلك الدروس على الشيخ حميدة مع كثير ممن طلب العلم فيما بعد بالجامع الأعظم مثل الأصدقاء والأقرباء صلاح الدين بن الحاج عبد الرحمن الغربي وهو ابن عمتي، أطال الله عمرها ومتعها بعقلها الراجح وذاكرتها الوافرة، وكذلك جارنا الحبيب بوزكورة وجميل بن رجب ومحمود الجنحاني شقيق زوجة عرفي الشايب، الذي التحق به، اثر الحرب العالمية الثانية ابن عمه الحبيب، وكان معنا في ذاك الكتاب شقيقي منير وحسن وعبد الرحمن ابنا خالي الحاج مَحمد صمود وكثير ممن سارت بهم الحياة في دروبها المتشعِّبة. لقد ذكرني رحيل رشيد قارة بصفحة من الحياة مع أتراب الكتاب، ثم دارت الأيام وقابلته في تونس العاصمة خاصة عندما كنا مغرمين بجمع أشعار أبي القاسم الشابي، التي نتلهف على نسخها حيثما عثرنا عليها، وكان لديه كراس كبير يدون فيه جميع قصائده التي يجدها في الجريدة أو المجلات أو عند أحد المغرمين بجمع شعره، وقد تكررت اللقاءات بيننا خاصة عندما كان يتردد على مدرسة التمثيل العربي في أوائل خمسينيات القرن الماضي حيث أخذ روادها قواعد فن الالقاء والتمثيل ومبادئ النقد والاخراج وكل ما له صلة بالفن الرابع على أيدي عثمان الكعاك وحسن الزمرلي ومحمد الحبيب والطاهر قيقة ومحمد عبد العزيز العقربي، وكان من الزملاء فيها كثير من الأصدقاء مثل علي بن عياد وأحمد الرمادي ومحمد عبد الكافي ومحمد حفظي الزليطني ومنى نور الدين ونور الدين القصباوي وعبد اللطيف الحمروني على مختلف أعمارهم وأعمالهم، وعند تأسيس الفرقة البلدية للتمثيل، وقع اعتماد الرشيد ممثلا فيها مع غيره ممن ذكرت ولم أذكر، وذلك بادارة الزمرلي ثم العقربي ثم علي بن عياد...فشاهدناه في مختلف الأدوار الجدية والهزلية، ورأيناه في بعض الأدوار السينمائية والتلفزية، وأذكر أنه عندما كان ضمْن (أسرة تحرير مجلة المسرح) في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي كان يحرص على مراسلتي في بيروت ليطلب مشاركتي في تحريرها شعرا ونثرا وقد تم ذلك بفضل مراسلاته ومراسلات بعض زملائه في تلك المجلة، وكانت كثافة نشاطه تحول بينه وبين التردد على مسقط رأسه، فقلما رأيته بعد ذلك في مرابع الصبا والشباب الأول الا في مناسبات قليلة مثل حضوره عندما كرمناه أثناء انعقاد مهرجان الأدباء الشبان في احدى دوراته السابقة، وكان آخر لقاء لي معه عندما زرته في منزله بقليبية بين أهله وأصهاره اثر العملية الجراحية التي أجريت على قلبه قبل وفاته بحوالي سنة فرأيته صحيحا معافى كعهدي به منذ عقود الا ما بدا عليه من أثر مرور الأعوام، وهكذا مرت الأيام بنا في ظلال الود والإخاء وقد مثّل كل منا دوره في الحياة، وأخيرا أسدل الستار على الفنان محمد رشيد قارة في مسرح الحياة كما أسدل غيره، ولا يدري أحد متى ينتهي من أداء دوره في مسرحية الحياة، اذ لابد أن تكون لكل مسرحية نهاية.