أواصل في هذا الركن سرد ذكرياتي، عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، فأنا ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، وقد نبهت منذ البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط (بالمعنى النبيل للكلمة)، وسأرويها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم. أذكر أنني صافحت الدكتور طه حسين مرة واحدة خارج الجامعة، إذ أننا رغم لقاءاتنا المتعددة به في كلية الآداب لم نتعود على مصافحته، ولم أر أحدا من الطلبة يصافحه فيها، وكذلك كان شأننا جميعا مع بقية أساتذتنا طوال تلك السنوات، وقد وقعت مصافحتنا الجماعية الوحيدة هذه، أمام قاعة «يورك التذكارية» التي تقع في الجانب الشرقي من الجامعة الأمريكية المحاذية لميدان التحرير، شرقي منزلنا الذي كنا نقيم فيه رقم 21 بالدور الرابع من شارع محمد محمود باشا، وذلك إثر خروجنا من تلك القاعة بعد انتهاء الاحتفال بأربعينية وفاة الكاتب المجمعي الوزير المفكر الدكتور محمد حسين هيكل سنة 1956 الذي أتذكر أنه قد حضره جماعة من المشاهير مثل أحمد لطفي السيد، مترجم أرسطو إلى العربية، وطه حسين الذي ألقى كلمة بهذه المناسبة عن صديقه الراحل، وقد تكلم في تلك الليلة كثير ممن لم أعد أتذكر أسماءهم الآن، ولم يتمكن من حضور ذلك الحفل عباس محمود العقاد لمرض ألمّ به أو لسفره إلى الصعيد، كما لا أتذكر جيدا، وقد أرسل قصيدة في رثاء هيكل ألقيت بالنيابة عنه. وبالمناسبة أقول إني لم أر العقاد إلا مرة واحدة أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة في أواخر سنة 1956 (وذلك بين 9 و 15 ديسمبر من تلك السنة) بقامته الفارعة و«كشكوله» الطويل الملتف حول عنقه، وقد ألقى يومئذ كلمة عن الشاعر محمود سامي البارودي في جلسة وقعت بقصر أحد أمراء مصر السابقين. وأود أن أشير إلى أني كنت أشاهد بعض مشاهير الكتاب والمفكرين مثل توفيق الحكيم وبيرم التونسي يوميا تقريبا ومحمد عوض محمد مترجم «فارست» إلى العربية مع توفيق الحكيم أحيانا، في مقهى يقع في أواخر شارع سليمان باشا سابقا وطلعت حرب حاليا مما يلي شارع 26 يوليو 1952، قرب سينما مترو ومسرح إسماعيل يس سابقا وتحية كاريوكا في ما بعد، ولست أدري ماذا يسمى الآن، بينما لم أر العقاد ولو مرة واحدة في أي مكان إلا في المناسبة السابقة. وبالمناسبة أتذكر أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قال مرة متحدثا عن بعض الأدباء المصريين إنه لم ير العقاد إلا أثناء انعقاد ذلك المؤتمر، أي بعد الثورة بحوالي ست سنين، وقد استنتجت من كلامه أن رؤيتنا للعقاد كانت في وقت واحد تقريبا، فقد كان العقاد طودا راسخا، له مجلس خاص لم أزره للأسف. وأذكر أن حفل أربعينية هيكل قد حضره معي جماعة من الطلبة التونسيين، أتذكر منهم من أبناء مسقط رأسي قليبية زميلي الطالب في جامعة القاهرة صلاح الدين الغربي وأصدقائي من جامعة عين شمس الطلبة: الحبيب بوزكورة وعبد السلام النمر وعبد الملك الزمرلي وعز الدين الغربي، وأتذكر أننا تجمعنا بعد انتهاء ذلك الحفل أمام الباب عند الخروج من تلك القاعة الكبرى، وانضم إلينا بعض الحاضرين، في انتظار خروج عميد الأدب لمصافحته مستغلين تلك الفرصة التي تعللنا فيها بتعزيته في زميله بالمجمع اللغوي وفي الوزارة والكتابة، وصاحب جريدة «السياسة الأسبوعية» الذي كلفه بالإشراف على صفحتها الأسبوعية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وعند خروج عميد الأدب العربي رآنا أحد الساهرين على توديعه من قاعة الجامعة الأمريكية متجمعين في انتظار خروجه، فقال له بصوت جهوري: «أبناؤك من الأمة العربية جاؤوا يعزونك يا سيادة العميد»، فرحّب بنا وصافحنا شاكرا وتقبل تعازينا في زميله وصديقه الراحل محمد حسين هيكل باشا، وبعد ذلك سمعنا صوتا ينادي: «سيارة العميد سيارة العميد». فتقدمتْ من الباب سيارة بدا لي أنها فخمة سوداء اللون فامتطاها عميد الأدب وانطلقت به، وعدنا إلى منازلنا مشدوهين ومعلقين. وما زلت أتذكر، إلى الآن، أن مدخل أو مخرج تلك القاعة الذي صافحنا فيه عميد الأدب كان في تلك الليلة غير كامل الإنارة، أو لعله قد بدا لي خافت الضوء لطول العهد بتلك المناسبة، وأود أن أشير إلى أن تلك القاعة تقع قرب مسكننا بجوار «ميدان التحرير» وكثيرا ما حضرنا فيها الحفلات السمفونية التي كانت تقام بها غالبا صباح كل يوم جمعة وهو يوم العطلة الأسبوعية في مصر. وأذكر بمناسبة الحديث عن هذه الأربعينية التي صافحنا فيها طه حسين أن زينب ابنة الدكتور محمد حسين هيكل كانت تَدْرس في «قسم الآثار» مع صديقي القديم المتجدد الأستاذ إبراهيم شبوح أمين مؤسسة آل البيت بالأردن الشقيق، ولعل والدها سماها على اسم بطلة أقدم رواية مصرية كتبها في أوائل القرن العشرين حوالي سنة 1912 أي منذ ما يناهز القرن من الزمان، عندما كان طالبا يدرس الحقوق بفرنسا، وأود أن ألاحظ أن قصة «زينب» لهيكل قد حُوِّلت إلى أول «شريط سينما سكوب» مصري في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. لقد قدم الصديق إبراهيم إليَّ زميلته زينب محمد حسين هيكل، ودعاني إلى أن أزور معهما المتحف الفرعوني في ميدان التحرير بالقاهرة، وأن أزور صحبتهما بعض معالم ومتاحف مصر القديمة، فزرنا المتحف الفرعوني، ثم قصدنا مصر الجديدة وتجولنا في ذلك الحي العتيق، وصادف أن حضرنا قدّاسا أو صلاة في بيعة قديمة لليهود تقع في شبه دهليز بذلك الحي المصري القديم، وقد تلا فيه حَبرُهم أدعيته بالعبرية القديمة من مخطوط قديم مكتوب على جلد ملفوف محفوظ في شبه خزانة، بحضور الزوار الذين كانوا هناك في ذلك الوقت، وسألتهم عن مدى فهمهم لما جاء في ذلك المخطوط فقالوا: لا يكاد يفهمه إلا أحبارهم. لقد ساقنا الحديث عن أربعينية هيكل، إلى فتح هذا القوس عن زينب ابنة هيكل وعن تلك الزيارات، وكل ذلك من باب الشيء بالشيء يذكر. وسأواصل، في لقاءاتنا القادمة، الحديث عما علق بذاكرتي من الذكريات البسيطة والطريفة عن طه حسين أثناء إلقاء دروسه أو محاضراته التي حضرتها له في جامعة القاهرة أو خارجها، في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، فإلى اللقاء.