تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنفونية ل «دونكيشوت السينما العربية»
الطاهر شريعة
نشر في الشعب يوم 30 - 10 - 2010

»الطاهر الشريعة«، الرجل الذي رمى ببرنسه على الثقافة التونسية، وخاصة الجزء الأكثر لذّة وطلاوة وتعقيدا وجدلا منها أعني آخر الفنون السابع منها اي السينما.
كان المرحوم »رشيد أدريس« يعتز بمسيرته مرددا من »باب سويقة الى منهاتن...«.
والطاهر الشريعة يعتز دوما أنه أصيل تلك صيادة البلدة الصغيرة التي ترنو البحر في سباتها الشتوي وحفيف اغصان زيتونها ورتابة ارتطام دفات أنوال نساجيها... وحركة الزوارق الصغيرة لصياديها تلك الزوارق التي لم يتغير شكلها منذ العهود القرطاجنية التي احتفظت بها الفسيفساء.
على ذكر الفسيفساء، فالطاهر الشريعة هو كالفسيفساء مفرقع المكونات ومنسجم المسيرة، كتلك المكعبات الصغيرة التي ترسم مشاهد غاية في التناغم والتناسق.
❊❊❊
(2)
من هو الطاهر الشريعة؟ وما هي مسيرته؟ وما هي آثاره؟ وماذا فعل بالسينما وماذا فعلت به؟
من الصعب ان تجيب على هذه الأسئلة حتى ولو أنك مثل كاتب هذه الكلمات كنت تتلمذت على يديه، وصليت امام رهبة شخصيته، ورضعت من كلامه، واستمعت الى مذكراته وهو يرويها على مسامعك لمدة شهرين وان تسجلها وتكتشف مسيرة رجل، وتاريخ بلد، ونشأة فن السينما في بلادك، ثقافة وانتاجا وادارة واشعاعا.
❊❊❊
هنالك رجالات يشحّ بها التاريخ ويعطيها الزمن لماما، رجالات يؤثرون في الواقع والفكر والتاريخ... والفن، وتكاد تونس ان تعطي أنموذجا من هذه الشخصيات بمعدل واحدة كل عشر سنوات أمثال علي باش حامبه وأبي القاسم الشابي، ومحمد علي الحامي، والطاهر الحداد، وفرحات حشاد، والبشير خريّف، وصالح القرمادي.. شخصيات تعطي ولا تأخذ، شخصيات تبني وتؤسس، شخصيات تحفر على أسوار التاريخ جداريات أزلية تساعد على رسم صورة للمشهد الثقافي والفكري والنضالي في البلاد... وآخر هذه الشخصيات المتفرّدة التي يفرزها التاريخ الثقافي لتونس في النصف الاخير من القرن الطاهر الشريعة وعلي بن عياد والهادي العبيدي... والقائمة قصيرة جدا.
❊❊❊
(3)
يقول الشاعر عبد الرحمان الأبنودي في قصيدته الجميلة »المدن« التي أحتفظ بنسخة بخط يده منها كالطلسم.
»عمرو ما قرية صغيرة تشتهر
إلا وطلع فيها مسيح
وإلا ألقى فيها قنبلة
أو طلع منها وباء خطير«
هكذا بلدة صيادة التي لم نسمع بها قبل الطاهر الشريعة
هكذا السينما التونسية التي لم يتعرف عليها العالم الا على يد الطاهر الشريعة. هكذا تونس لم تكتشفها جماهير المهرجانات السينمائية العالمية الا على يد الطاهر الشريعة.
هكذا السينما الافريقية التي ترعرت على يد الطاهر الشريعة.
(4)
الطاهر الشريعة الفسيفساء هو، عندما كان في عنفوانه، من اكثر الرجال وسامة عرفتهم، وتأتي قامته وكأنه برلماني قرطاجنياsuffeteب وفي حديثه بين سخاء الاستاذ المحب لتلميذة والراوية الافريقي اGriotب وفي كتاباته وكأنه الأصفهاني يكتب ويروي ويستطرد، (الطاهر الشريعة هو ملك الاستطراد...) وفي رسائله يمارس الاعلام والتعليم والأدب...
وفي دراسته وكتاباته دقيقا، يقرع الحرف بالرقم... يحلل ويدلل بالارقام ومهوس بالتأريخ ليكتب مسيرة السينما التونسية والافريقية في تاريخانيتها (على حد قول صديقه أنور عبد المالك) وتاريخها... اقتصادها، وتركيبتها، واقعها، وحاضرها، ومستقبلها كما أتى في مقالاته التي كثيرا ما يمهر عناويتها بأسئلة: السينما التونسية الى أين؟ الى اين تتجه السينما المصرية؟ وغيرها.
وهو في حياته اليومية فنان يقارع رحيق الزمن بممارسة نشاطات لا يعرفها إلاّ الذين اقتربوا منه وغمرهم بأريحيته وغطاهم بجناح برنسه الدافئ كما فعل مع العديد مثل »ميد هندو« و »الناصر الكتاري« و »محمد شلّوف«... والعديد العديد... وكان لي الشرف والفخر أنني احتميت بجناح ذلك البرنس اذ كان تبناني رغم أنفي فوجدتني أعامله معاملة الأبن واصبح قيصر وخالد وحاتم وبلقيس أخوتي.
فالطاهر الشريعة واصل ممارسة النجارة نعم النجارة وفي غياب النول واصل نسج التريكو وطبعا ممارسة الشعر والترجمة والكتابة بصفة عامة... وحب النبيذ الجيد وهو أعظم من يقوم بشواء السردين...
فلم أتلذذ يوما اكثر من تلذذ السماع الى حكاياته وتحاليله ولا ألذ من أسلوبه بالعربية والفرنسية في كتاباته ولا ألذ من شواء سردينه وهو القادر ان يخفي الجمر تحت الرماد من الظهر الى الليل... وهو كذلك مولع بالبستنة حتى انه استطاع ان يجعل »الباباي« (Papaye) وثمار الشغف (Fruits de la passion) تنبت في الزهراء وحتى في المنستير عندما أهدى للفنان رضا الزيلي شجرة بابايي... أعطت الثمار العديدة في حديقة بسقانص.
فهو أتى بين المتعي (hedouste) و»التلذذي« (epicurien) رغم انه في نفس الوقت رواقي (stoًcien) القادر على تحمل الآلام والمشاق مثل (epictête) وبرغماتي و»ستاخانوفي« (staknoviste) فهو يتمتع بطاقة خرافية في العمل وفي خطابه وكأنه خرج توًا من مدارس منطق أرسطو... ومن حلقة نقاش معتزلية الى جانب معرفته معرفة كاملة بالشعر العربي والفرنسي وفوق ذلك المشهد الفسيفساء غشاء خفيف كذلك الذي يغطي لوحات »واتو« (watteau) التي تشوبها نسخة من الشجن المتمثلة في السينما.
(5)
كيف ألج الى شخصية هذا الرجل المتميز والفذّ... كيف يستطيع الأبن رسم »بورتريه« لأبيه دون ان يسقط في الأنانية وتضخم الشخصية لكني احتمي بنصائح الطاهر الشريعة عندما أ تردد في موقف عندما فيقول لك »خلّي القافلة تمشي والكلاب تنبح«... وأتذكر تلك الجملة الرائعة التي يختم بها »كارل ماركس« مقدمة »نقد الاقتصاد الجديد«.
»أفعل ما تريد وأترك الآخرين يعلقون« وهو بيت شعر. استعارة من الكوميديا الالاهية »لدانتي«... غير اني احتمي بجمهور غفير سيوافقني ان أطنبت في المدح وسيعزز موقفي ان بالغت في التمجيد... تلامذته بصفاقس ومريديه في نوادي السينما والسينمائيين العرب والافارقة الذين رعاهم والسينمائيين العالميين الذين فتح أعينهم على فضاءات سينمائية اخرى في افريقيا والعالم العربي ابتداء من »جورج سادول« حتى »ميد هندو« مرورا »بيوسف شاهين« وتوفيق صالح والنوري بوزيد وفريد بوغدير وحتى السينمائي الصغير المبتدئ الذي لم يعرفه بل ان اسم الطاهر الشريعة رنّ في أذنه لكي يجعل من هذا الرجل أيقونة السينما التونسية وفسيفساءها كتلك التي تعكس عربدة ديونيزوس التي عثر عليها في قرطاج والمدرعة بوتمكين الذي جعلنا نكتشف من خلاله روعة الشغف بالصورة.
(6)
❊ شهقة البدء
يعجبني عنوان ديوان الشاعرة سندس بكار »شهقة البدء« واستعيره هنا للبدء بسرد مسيرة الطاهر الشريعة... شهقة البدء كانت في صيادة فهو يكتب »لقد كان أبي رحمه الله حائكا بسيطا ذا عيال وفاقة وذا ايمان بالله ورسوله ما فوقه ولا أعمق منه ايمان لكنه كان ذكيّا جدا فكان له في تربية أولاده خاصة وفي معاملاته مع الناس عموما منهم وتصرفات من المنطق وهدى العقل بمكان عظيم ما انفكت الايام تذكرني بأشكال عجيبة من وضوحه واستقامته وصوابه الجليل... فما عرفت منه رحمة الله عليه وما تذكرت عنه الا سهرا ومتابعة وقسوة مستمرة فيهما...
المراهق الطاهر الشريعة كان منزويا ليست له مع اترابه اية علاقة لا لعب ولا عراك ولا زمالة بل كان يمشي وحده... منزويا بداخله ويقضّي جل وقته في »الصوّة« ببستان على ملك اجداده كانت فيها زريبة يجلس فيها وحده، درس في الكتّاب ما يسمح له بالمطالعة بالعربية ولا يعرف كلمة باللغة الفرنسية حتى صيف بداية الأربعينيات... وكأننا نحضر مسرحية »شكسبير« »حلم ليلة صيف« عندما قدم الى القرية معلّم فرنسي وزوجته التي رزقت بطفلة كانت في سن الثانية... عندما فتحت المدرسة التي كان فيها ذلك الفرنسي القادم من »تشاربورغ« المدير والمعلم الاساسي وزوجته المعلمة الثانية ومعهما معلم عربية يؤمن مرتين في الاسبوع دراسة اللغة العربية ومن جدّية ذلك المعلم انه احتار في البحث عن حلّ لمساعدته على الاهتمام بإبنته طيلة اليوم الذي ينهمك فيه وزوجته في تعليم التلاميذ. طلب المعلم من الشيخ ان يجد له امرأة حاضنة، ضحك أهالي صيّادة وأعلموه لا توجد امرأة في البلدة تتجرأ على العمل كخادمة وخاصة للكفّار فأشير عليه بشاب اشتهر بالاستقامة والجدية وكان ذلك الشاب هو الطاهر الشريعة فقبل المعلم واتفق مع المراهق ان يكون راعي ابنته مقابل 20 فرنكا شهريا وكان ذلك المبلغ يفوت راتب أبيه أهتم المراهق بالطفلة غير انه اكتشف ان المعلم قد قام بزرع بعض الازهار والخضار في مربع بساحة المدرسة ففي أوقات الفراغ قام المراهق باقتلاع الاعشاب الطفيلية فجزاه المعلم ب 5 فرنكات أخرى حتى يهتم بالبستان الصغيرثم طلب منه زرع مساحة أكبر...
وتفطن المعلم الى نباهة الطاهر الشريعة فراح يعلّمه بالبيت دون ان يدمجه في القسم وذلك طيلة سنة ونصف الى ان اشتد عود الطفلة فأدمجه في القسم حتى يتحصل الطاهر الشريعة بعد سنتين ونصف من التعليم الابتدائي على شهادة ختم الدروس الابتدائية الموقرة (certificat)... ذبح الاب خروفا ونظم عرسا لا لشيء... (لا للعلم...) وهو الذي يحلم ان يكون ابنه نسّاجا ماهرا بل لسبب واحد لان الشهادة الموقرة سوف تعفي الابن من الدخول الى الجيش الفرنسي الغازي جيش الكفّار اذ الذي يتحصل على تلك الشهادة هو معفى من الخدمة العسكرية.
(7)
❊ الصادقية وما أدراك ما الصادقية
يطير الشاب الى الصادقية وسيكتشف العاصمة بأضوائها ونسائها الجميلات ومقاهيها وخاصة قاعات السينما التي لا يفارقها اخر الاسبوع وسوف يدرس مع التلاميذ الذين سيؤسسون الطاقم الاداري للدولة الناشئة وسوف يكتشف النضال والمظاهرات والاتحاد العام التونسي للشغل الذي ساهم في جريدته »الشعب« بمقالات وهو في الثالثة ثانوي.. ويدرس على أيدي أساتذة أكفاء منهم »محمود المسعدي« الذي سيحتضنه ويأخذه معه الى البيت ليعطيه دروسا خصوصية ويكتشف ان المسعدي حسب مذكرات الطاهر الشريعة كان يضمر له ان يزوجه ابنته غير ان ذلك لم يتم.
وسوف ينخرط في الكشافة التونسية فيقول »الى ان عدت اول مرة في عطلة الشتاء من المدرسة الصادقية حيث كنت »بيّاتا« فقد رآني أبي يومئذ اكتسي زي الكشافة الاسلامية وأخرج الى الغاب »وأفخاذي عريانة!!« فاستنكر ذلك وكان بيني وبينه أوّل »حوار رجال«...
يطوي الطاهر الشريعة الصادقية طيّآ ناجحا نابعًا الى ان يتحصل على »الدبلوم الصادقي« دون ان يعلم ابيه الذي كان يودّ ان يكتفي الشاب بالبكالوريا.. ويصبح معلما في صيّادة او لمطة أو بوحجر، لكن المسعدي الذي سينتقل للتدريس في »المعهد العالي« نواة الجامعة التونسية التي كانت دروسها تلقى في تونس والامتحانات يتم اصلاحها في فرنسا وتدوم فيه »الليسانس« سنتين فقط وذلك حتى يتسنى للدولة الناشئة تأمين تعليم جيّد من طرف ابناء البلد.
وينجح الطاهر الشريعة بتفوق.. وفي الصائفة يتمّ تعيينه استاذا للاداب واللغة العربية بصفاقس...
(8)
❊ التدريس في صفاقس
صفاقس! وما أدراك ما صفاقس، رغم اني مغرم بالنكت حول صفاقس والصفاقسية فإنّني أجلّ هذه المدينة وأهلها أيّما اجلال، واعتقد راسخا انّ صفاقس هي العاصمة الفعلية والحقيقية للبلاد وأن تونس استلبت من صفاقس ريادتها، لماذا؟لأنني شخصيا أدين الى الصفاقسيّة بحياتي واستسمح القارئ أن أستطرد وأحدّث عن مسيرتي الشخصية وسوف تفهمون ذلك...
فصفاقس هي آخر قلعة صمدت ضدّ الاحتلال عام 1881 ومن صفاقس انطلق فرحات حشاد والاتحاد العام التونسي للشغل ولولا صفاقس لما اشتد عود الحزب الحرّ الدستوري التونسي وفي صفاقس اشتد عود الاقتصاد بالكدّ والجدّ وبتعصير القطاع البنكي على يد ذلك العظيم منصور معلّة ومن صفاقس خرج الرائع والعظيم محمد الشرفي ومن صفاقس أتى رائد الصحافة والاعلام سي الحبيب شيخ روحه رحمه الله الذي ومن تحت معطفه خرج الصحافيون الشرفاء...
ومن صفاقس وهذا بيت القصيد اشتد عود السينما التونسية.. حتى خرج منها أساطين السينما اليوم واكتفي بذكر النوري بوزيد كمخرج والطيب الجلولي من أكبر مهندسي الديكور في العالم هذا الى جانب الموسيقى واكتفي بذكر الجموسي.
في صفاقس انكب الطاهر الشريعة على عمله كمدرّس سوف يحدث شرخا في بيداغوجية تعليم العربية إذ سينقل تدريس اللغة العربية من الحفظ عن ظهر قلب لألفية ابن مالك والاجرومية ودراسة النحو والعروض الى الدخول الى عصر دراسة النص اسوة بتدريس اللغة الفرنسية التي كانت تعتمد على ذلك الكتاب الجميل (La Garde et Michard) الذي كرعنا منه الادب الفرنسي في أجزائه الستة والذي اكتشفنا بين طيات أجزائه لوحات الرسامين في العالم وكأننا نزور متحف اللوفر في طبعة أنيقة ما أحوجنا اليوم الى كتب مماثلة لتدريس لغتنا الجميلة.
فقد حدّثني سي محمد الشرفي رحمه الله عليه انه لما اكتشف التلاميذ دروس الطاهر الشريعة... قام زلزال في تصرف الشباب ازاء مدرّسي العربية الذين كانوا قد قدموا من جامع الزّيتونة والذين يعتمدون على الحفظ والنقل.. فكان التلاميذ يردّدون ان تدريس الطاهر الشريعة للغة العربية تشبه دروس الرياضيات والفيزياء فقد تتلمذ على يده العديد من إطارات تونس اليوم ولا أذكر الا محمد الصيّاح ومحمد الشرفي في نفس القسم و الصادق مرزوق والتيجاني الحدّاد والدّكتور محمد البحري ومنصف الزغيدي والقائمة طويلة طويلة وقد كان أحد المديرين في المعهد تونسي متزوج بأجنبية، كان بيته يجمع جلّ كوادر صفاقس فكان الطاهرالشريعة ينظم الى المجموعة التي من بينها مصطفى الفيلالي وعبد العزيز العقربي المساهم في انقلاب 1962 ومحمد الكراي أستاذ الفلسفة والدكتور جورج خيّاط وكذلك المرحوم النوري الزنزوري الذي سيكوّن ثنائيا سينمائيا مع الطاهر الشريعة وسيؤسس ذلك الثنائي كل دعامات السينما التونسية..
(9)
❊ نوادي السينما
تاريخ حركة نوادي السينما لم يكتب بعد.. لانعدام الوثائق ولعدم وجود باحثين مختصين في التاريخ الثقافي اذا ما استثنينا الباحث المتمرس والمتواضع »الحبيب بلعيد« الذي أتحفنا بدراستين حول السينما في عهد الاستعمار....
تأسس أوّل ناد للسينما عام 1949 وقد كان وراءه شخص اسمه رزوقه لكن جلّ منخرطيه كانوا من الفرنسيين وتعرض افلامه في قاعة »معهد كارنو« وهي قاعة عرض جميلة في بداية نهج رومة اليوم وقد اكتشفت في حديث لي مع المؤرخ الكبير والمستعرب والعالم »اندري ريمون« الذي ترجم ابن ابي الضياف انه لما كان مدرسا في »معهد كارنو« كان من مؤسسي ذلك النادي وكان »اندري ريمون« مناضلا نقابيا واشتراكيا عمل ضمن الاتحاد العام التونسي للشغل وأسرّ لي انه يملك افلاما هاوية صوّر فيها مظاهرات الاتحاد.
وفي عام 1950 تأسست الجامعة التونسية لنوادي السينما التي كان نادي »لويس لوميير« بصفاقس أنشط نواديها... وهكذا في أواسط الخمسينات انتخب الطاهر الشريعة رئيسا لها في حين انّ مقرّ الجامعة كان في 2 نهج روسيا بتونس وكان نشاطها ينطلق من صفاقس، فإلى جانب نادي لويس لوميير الذي كان يؤمه الفرنسين أسس الطاهر الشريعة نادي سينما الشباب الذي كان يعلق ملصقا في كل قاعة وكانت على التوالي: نور / النجمة / الراكس / الكوليزي / الماجستيك تحمل جدولا بكل المعطيات حول الفيلم وبها تقييم النادي، وكانت الجامعة بمعية مجلس الثلاثة الطاهرالشريعة والنوري الدزوري واستاذ فرنسي غاب عني اسمه، يضعون على ملصقات الافلام التي يختارونها ورقة كتب عليها »يُوصي مشاهدة هذا الفيلم« وانطلقت من هناك مجلة »نوادي« أول مجلة في النقد السينمائي.. كان الطاهر الشريعة أوّل من يكتب النقد في جريدة »الانباء الصفاقسية« التي كان يرأس تحريرها المصور الفوتوغرافي »اندري موزي«...
(10)
❊ بذرة الديموقراطية التي لم تنبت
كان الطاهر الشريعة في صفاقس الى جانب التعليم مناضلا في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انخرط فيه منذ السنة الاولى بعد تخرجه من الصادقية حيث عمل معلمّا في احد مدارس المدينة وفي صفاقس شارك في كل المظاهرات وكل النشاطات حتى انتخب كاتبا عاما لنقابة التعليم وكان قد خاض معركتين كبيرتين مع مصطفى الفيلالي واحمد بن صالح ضدّ مؤتمر صفاقس الشهير الذي كان مؤتمرا لتوحيد كل الاتحادات: الشغل، والصناعة والفلاحة والمرأة التي أرادها بورقيبة ووزيره الطيب المهيري أن تنظم اتحادا واحدا..
وتأتي أول انتخابات تشريعية فنجد الطاهر الشريعة يدخل تلك الانتخابات على رأس »قائمة الجبهة الديمقراطية« التي كان شعارها في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي والتي سنفرد لها صفحة في هذا الملحق.
(11)
❊ إدارة السينما
في رسالة أهداني منها سي الطاهر نسخة في 6 صفحات مؤرخة في عام 1957وجهها الى وزارة الثقافة يطالب فيها بتأسيس ادارة للسينما في صلب الوزارة وفعلا لم تكن تلك الرسالة قد ركنت في الارشيف بل استجاب لها المثقف الشاذلي القليبي وفعلا وبسرعة احدثت تلك الادارة التي اسندت مهام تسييرها للطاهر الشريعة... واحقاقا للحق فالمدعم لذلك رجل يجب ذكره واحترامه واعادة الاجلال له وهو المرحوم عبد الحكيم عبد الجوّاد الذي كان مدير ديوان الشاذلي القليبي، وقد كان شيوعيا كجلّ اسرته خدوما للدولة والثقافة والتفتح وبناء وطن آملا ان يكون نبراسه الحداثة والديموقراطية. هكذا شرع الطاهر الشريعة والنوري الزنزوري اللذان كلما رأيتهما معا اتذكر لوحة »بيكاسو« الشهيرة »دونكيشوت وسانشو«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.