تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    قتلى ومصابون في هجوم إيراني جديد على إسرائيل    "بأساليب جديدة".. إيران تضرب ميناء حيفا وقاعدة بتل أبيب    إيران تعلن إعدام "جاسوس الموساد" الإسرائيلي إسماعيل فكري شنقا    الاحتلال يستهدف مقرا للحرس الثوري في طهران    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي على حساب الجيش الملكي    طقس اليوم: الحرارة في ارتفاع    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    قتلى بهجوم "مدمر" على تل أبيب وحيفا وبزشكيان يؤكد الصمود    هجوم صاروخي إيراني غير مسبوق على إسرائيل ودمار واسع في كل مكان    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    القيروان .. إستعدادا لاجتياز مناظرتي السيزيام والنوفيام .. جلسة توعوية للإحاطة بالتلاميذ وأوليائهم    الكرة الطائرة : المنتخب في إيطاليا وبن عثمان يحتجب    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    مديرو المهرجانات الصيفية يواجهون صعوبات .. بين مطرقة ارتفاع كلفة الفنانين وسندان أذواق المتفرجين    اليوم انطلاق مناظرة «السيزيام»    كأس العالم للأندية :باريس سان جيرمان يضرب أتليتيكو مدريد برباعية    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    إجراءات لدعم التشغيل    مدنين: حملة نظافة بجربة اجيم لجمع النفايات البلاستيكية    تونس: حوالي 25 ألف جمعية 20 بالمائة منها تنشط في المجال الثقافي والفني    إطلاق خارطة السياسات العمومية للكتاب في العالم العربي يوم 24 جوان 2025 في تونس بمشاركة 30 دار نشر    وزارة المالية تعين لمياء بن اسماعيل في خطة امين مال عام للجمهورية التونسية    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قافلة الصمود تدعو الراغبين في العودة إلى تونس لتسجيل أسمائهم في موقع التخييم بمصراتة    وزارة الأسرة تذكّر بأنّ خدمة تلقي الاشعارات والتوجيه حول كبار السن متاحة على الرقم الأخضر 1833    هكذا سيكون طقس الليلة    حملات الشرطة البلدية تسفر عن مئات المخالفات في مجالي الأمن والصحة    كأس العالم للأندية 2025: بنفيكا يواجه بوكا جونيورز وتشيلسي يفتتح مشواره أمام لوس أنجلس غدا    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    لجنة انتداب تابعة لوزارة التربية العمانية تزول تونس الاسبوع المقبل (وكالة التعاون الفني)    وزارة الصحة: اختيار مراكز التربصات للمقيمين في الطب ستجرى خلال الفترة من 16 الى 19 جوان الجاري    فيلم "عصفور جنة" يشارك ضمن تظاهرة "شاشات إيطالية" من 17 إلى 22 جوان بالمرسى    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    لماذا تستهلك بعض السيارات الزيت أكثر من غيرها؟    مطار النفيضة يستقبل أول رحلة مباشرة من مولدافيا    دورة برلين المفتوحة للتنس: انس جابر في الجدول النهائي بفضل بطاقة الخاسر المحظوظ    إتحاد الفلاحة بباجة يدعو إلى مراجعة سلم تعيير الحبوب بسبب تدني الجودة جراء الأمطار الأخيرة [فيديو]    وزارة الصحة تُعلن رزنامة اختبار اختيار المراكز للمقيمين في الطب    روسيا تدخل على خط الأزمة: بوتين لترامب' 'لن نسمح بتصعيد خطير في الشرق الأوسط''    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    الترجي الرياضي يعزز ثقة باسم السبكي بقيادة الفريق لموسم جديد    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    الأهلي يُعلن غياب إمام عاشور رسميًا بعد إصابته أمام إنتر ميامي    مقترح برلماني: 300 دينار منحة بطالة و450 دينار للعاجزين عن العمل    العثور على شقيق الفنانة لطيفة العرفاوي متوف داخل منزله    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنفونية ل «دونكيشوت السينما العربية»
الطاهر شريعة
نشر في الشعب يوم 30 - 10 - 2010

»الطاهر الشريعة«، الرجل الذي رمى ببرنسه على الثقافة التونسية، وخاصة الجزء الأكثر لذّة وطلاوة وتعقيدا وجدلا منها أعني آخر الفنون السابع منها اي السينما.
كان المرحوم »رشيد أدريس« يعتز بمسيرته مرددا من »باب سويقة الى منهاتن...«.
والطاهر الشريعة يعتز دوما أنه أصيل تلك صيادة البلدة الصغيرة التي ترنو البحر في سباتها الشتوي وحفيف اغصان زيتونها ورتابة ارتطام دفات أنوال نساجيها... وحركة الزوارق الصغيرة لصياديها تلك الزوارق التي لم يتغير شكلها منذ العهود القرطاجنية التي احتفظت بها الفسيفساء.
على ذكر الفسيفساء، فالطاهر الشريعة هو كالفسيفساء مفرقع المكونات ومنسجم المسيرة، كتلك المكعبات الصغيرة التي ترسم مشاهد غاية في التناغم والتناسق.
❊❊❊
(2)
من هو الطاهر الشريعة؟ وما هي مسيرته؟ وما هي آثاره؟ وماذا فعل بالسينما وماذا فعلت به؟
من الصعب ان تجيب على هذه الأسئلة حتى ولو أنك مثل كاتب هذه الكلمات كنت تتلمذت على يديه، وصليت امام رهبة شخصيته، ورضعت من كلامه، واستمعت الى مذكراته وهو يرويها على مسامعك لمدة شهرين وان تسجلها وتكتشف مسيرة رجل، وتاريخ بلد، ونشأة فن السينما في بلادك، ثقافة وانتاجا وادارة واشعاعا.
❊❊❊
هنالك رجالات يشحّ بها التاريخ ويعطيها الزمن لماما، رجالات يؤثرون في الواقع والفكر والتاريخ... والفن، وتكاد تونس ان تعطي أنموذجا من هذه الشخصيات بمعدل واحدة كل عشر سنوات أمثال علي باش حامبه وأبي القاسم الشابي، ومحمد علي الحامي، والطاهر الحداد، وفرحات حشاد، والبشير خريّف، وصالح القرمادي.. شخصيات تعطي ولا تأخذ، شخصيات تبني وتؤسس، شخصيات تحفر على أسوار التاريخ جداريات أزلية تساعد على رسم صورة للمشهد الثقافي والفكري والنضالي في البلاد... وآخر هذه الشخصيات المتفرّدة التي يفرزها التاريخ الثقافي لتونس في النصف الاخير من القرن الطاهر الشريعة وعلي بن عياد والهادي العبيدي... والقائمة قصيرة جدا.
❊❊❊
(3)
يقول الشاعر عبد الرحمان الأبنودي في قصيدته الجميلة »المدن« التي أحتفظ بنسخة بخط يده منها كالطلسم.
»عمرو ما قرية صغيرة تشتهر
إلا وطلع فيها مسيح
وإلا ألقى فيها قنبلة
أو طلع منها وباء خطير«
هكذا بلدة صيادة التي لم نسمع بها قبل الطاهر الشريعة
هكذا السينما التونسية التي لم يتعرف عليها العالم الا على يد الطاهر الشريعة. هكذا تونس لم تكتشفها جماهير المهرجانات السينمائية العالمية الا على يد الطاهر الشريعة.
هكذا السينما الافريقية التي ترعرت على يد الطاهر الشريعة.
(4)
الطاهر الشريعة الفسيفساء هو، عندما كان في عنفوانه، من اكثر الرجال وسامة عرفتهم، وتأتي قامته وكأنه برلماني قرطاجنياsuffeteب وفي حديثه بين سخاء الاستاذ المحب لتلميذة والراوية الافريقي اGriotب وفي كتاباته وكأنه الأصفهاني يكتب ويروي ويستطرد، (الطاهر الشريعة هو ملك الاستطراد...) وفي رسائله يمارس الاعلام والتعليم والأدب...
وفي دراسته وكتاباته دقيقا، يقرع الحرف بالرقم... يحلل ويدلل بالارقام ومهوس بالتأريخ ليكتب مسيرة السينما التونسية والافريقية في تاريخانيتها (على حد قول صديقه أنور عبد المالك) وتاريخها... اقتصادها، وتركيبتها، واقعها، وحاضرها، ومستقبلها كما أتى في مقالاته التي كثيرا ما يمهر عناويتها بأسئلة: السينما التونسية الى أين؟ الى اين تتجه السينما المصرية؟ وغيرها.
وهو في حياته اليومية فنان يقارع رحيق الزمن بممارسة نشاطات لا يعرفها إلاّ الذين اقتربوا منه وغمرهم بأريحيته وغطاهم بجناح برنسه الدافئ كما فعل مع العديد مثل »ميد هندو« و »الناصر الكتاري« و »محمد شلّوف«... والعديد العديد... وكان لي الشرف والفخر أنني احتميت بجناح ذلك البرنس اذ كان تبناني رغم أنفي فوجدتني أعامله معاملة الأبن واصبح قيصر وخالد وحاتم وبلقيس أخوتي.
فالطاهر الشريعة واصل ممارسة النجارة نعم النجارة وفي غياب النول واصل نسج التريكو وطبعا ممارسة الشعر والترجمة والكتابة بصفة عامة... وحب النبيذ الجيد وهو أعظم من يقوم بشواء السردين...
فلم أتلذذ يوما اكثر من تلذذ السماع الى حكاياته وتحاليله ولا ألذ من أسلوبه بالعربية والفرنسية في كتاباته ولا ألذ من شواء سردينه وهو القادر ان يخفي الجمر تحت الرماد من الظهر الى الليل... وهو كذلك مولع بالبستنة حتى انه استطاع ان يجعل »الباباي« (Papaye) وثمار الشغف (Fruits de la passion) تنبت في الزهراء وحتى في المنستير عندما أهدى للفنان رضا الزيلي شجرة بابايي... أعطت الثمار العديدة في حديقة بسقانص.
فهو أتى بين المتعي (hedouste) و»التلذذي« (epicurien) رغم انه في نفس الوقت رواقي (stoًcien) القادر على تحمل الآلام والمشاق مثل (epictête) وبرغماتي و»ستاخانوفي« (staknoviste) فهو يتمتع بطاقة خرافية في العمل وفي خطابه وكأنه خرج توًا من مدارس منطق أرسطو... ومن حلقة نقاش معتزلية الى جانب معرفته معرفة كاملة بالشعر العربي والفرنسي وفوق ذلك المشهد الفسيفساء غشاء خفيف كذلك الذي يغطي لوحات »واتو« (watteau) التي تشوبها نسخة من الشجن المتمثلة في السينما.
(5)
كيف ألج الى شخصية هذا الرجل المتميز والفذّ... كيف يستطيع الأبن رسم »بورتريه« لأبيه دون ان يسقط في الأنانية وتضخم الشخصية لكني احتمي بنصائح الطاهر الشريعة عندما أ تردد في موقف عندما فيقول لك »خلّي القافلة تمشي والكلاب تنبح«... وأتذكر تلك الجملة الرائعة التي يختم بها »كارل ماركس« مقدمة »نقد الاقتصاد الجديد«.
»أفعل ما تريد وأترك الآخرين يعلقون« وهو بيت شعر. استعارة من الكوميديا الالاهية »لدانتي«... غير اني احتمي بجمهور غفير سيوافقني ان أطنبت في المدح وسيعزز موقفي ان بالغت في التمجيد... تلامذته بصفاقس ومريديه في نوادي السينما والسينمائيين العرب والافارقة الذين رعاهم والسينمائيين العالميين الذين فتح أعينهم على فضاءات سينمائية اخرى في افريقيا والعالم العربي ابتداء من »جورج سادول« حتى »ميد هندو« مرورا »بيوسف شاهين« وتوفيق صالح والنوري بوزيد وفريد بوغدير وحتى السينمائي الصغير المبتدئ الذي لم يعرفه بل ان اسم الطاهر الشريعة رنّ في أذنه لكي يجعل من هذا الرجل أيقونة السينما التونسية وفسيفساءها كتلك التي تعكس عربدة ديونيزوس التي عثر عليها في قرطاج والمدرعة بوتمكين الذي جعلنا نكتشف من خلاله روعة الشغف بالصورة.
(6)
❊ شهقة البدء
يعجبني عنوان ديوان الشاعرة سندس بكار »شهقة البدء« واستعيره هنا للبدء بسرد مسيرة الطاهر الشريعة... شهقة البدء كانت في صيادة فهو يكتب »لقد كان أبي رحمه الله حائكا بسيطا ذا عيال وفاقة وذا ايمان بالله ورسوله ما فوقه ولا أعمق منه ايمان لكنه كان ذكيّا جدا فكان له في تربية أولاده خاصة وفي معاملاته مع الناس عموما منهم وتصرفات من المنطق وهدى العقل بمكان عظيم ما انفكت الايام تذكرني بأشكال عجيبة من وضوحه واستقامته وصوابه الجليل... فما عرفت منه رحمة الله عليه وما تذكرت عنه الا سهرا ومتابعة وقسوة مستمرة فيهما...
المراهق الطاهر الشريعة كان منزويا ليست له مع اترابه اية علاقة لا لعب ولا عراك ولا زمالة بل كان يمشي وحده... منزويا بداخله ويقضّي جل وقته في »الصوّة« ببستان على ملك اجداده كانت فيها زريبة يجلس فيها وحده، درس في الكتّاب ما يسمح له بالمطالعة بالعربية ولا يعرف كلمة باللغة الفرنسية حتى صيف بداية الأربعينيات... وكأننا نحضر مسرحية »شكسبير« »حلم ليلة صيف« عندما قدم الى القرية معلّم فرنسي وزوجته التي رزقت بطفلة كانت في سن الثانية... عندما فتحت المدرسة التي كان فيها ذلك الفرنسي القادم من »تشاربورغ« المدير والمعلم الاساسي وزوجته المعلمة الثانية ومعهما معلم عربية يؤمن مرتين في الاسبوع دراسة اللغة العربية ومن جدّية ذلك المعلم انه احتار في البحث عن حلّ لمساعدته على الاهتمام بإبنته طيلة اليوم الذي ينهمك فيه وزوجته في تعليم التلاميذ. طلب المعلم من الشيخ ان يجد له امرأة حاضنة، ضحك أهالي صيّادة وأعلموه لا توجد امرأة في البلدة تتجرأ على العمل كخادمة وخاصة للكفّار فأشير عليه بشاب اشتهر بالاستقامة والجدية وكان ذلك الشاب هو الطاهر الشريعة فقبل المعلم واتفق مع المراهق ان يكون راعي ابنته مقابل 20 فرنكا شهريا وكان ذلك المبلغ يفوت راتب أبيه أهتم المراهق بالطفلة غير انه اكتشف ان المعلم قد قام بزرع بعض الازهار والخضار في مربع بساحة المدرسة ففي أوقات الفراغ قام المراهق باقتلاع الاعشاب الطفيلية فجزاه المعلم ب 5 فرنكات أخرى حتى يهتم بالبستان الصغيرثم طلب منه زرع مساحة أكبر...
وتفطن المعلم الى نباهة الطاهر الشريعة فراح يعلّمه بالبيت دون ان يدمجه في القسم وذلك طيلة سنة ونصف الى ان اشتد عود الطفلة فأدمجه في القسم حتى يتحصل الطاهر الشريعة بعد سنتين ونصف من التعليم الابتدائي على شهادة ختم الدروس الابتدائية الموقرة (certificat)... ذبح الاب خروفا ونظم عرسا لا لشيء... (لا للعلم...) وهو الذي يحلم ان يكون ابنه نسّاجا ماهرا بل لسبب واحد لان الشهادة الموقرة سوف تعفي الابن من الدخول الى الجيش الفرنسي الغازي جيش الكفّار اذ الذي يتحصل على تلك الشهادة هو معفى من الخدمة العسكرية.
(7)
❊ الصادقية وما أدراك ما الصادقية
يطير الشاب الى الصادقية وسيكتشف العاصمة بأضوائها ونسائها الجميلات ومقاهيها وخاصة قاعات السينما التي لا يفارقها اخر الاسبوع وسوف يدرس مع التلاميذ الذين سيؤسسون الطاقم الاداري للدولة الناشئة وسوف يكتشف النضال والمظاهرات والاتحاد العام التونسي للشغل الذي ساهم في جريدته »الشعب« بمقالات وهو في الثالثة ثانوي.. ويدرس على أيدي أساتذة أكفاء منهم »محمود المسعدي« الذي سيحتضنه ويأخذه معه الى البيت ليعطيه دروسا خصوصية ويكتشف ان المسعدي حسب مذكرات الطاهر الشريعة كان يضمر له ان يزوجه ابنته غير ان ذلك لم يتم.
وسوف ينخرط في الكشافة التونسية فيقول »الى ان عدت اول مرة في عطلة الشتاء من المدرسة الصادقية حيث كنت »بيّاتا« فقد رآني أبي يومئذ اكتسي زي الكشافة الاسلامية وأخرج الى الغاب »وأفخاذي عريانة!!« فاستنكر ذلك وكان بيني وبينه أوّل »حوار رجال«...
يطوي الطاهر الشريعة الصادقية طيّآ ناجحا نابعًا الى ان يتحصل على »الدبلوم الصادقي« دون ان يعلم ابيه الذي كان يودّ ان يكتفي الشاب بالبكالوريا.. ويصبح معلما في صيّادة او لمطة أو بوحجر، لكن المسعدي الذي سينتقل للتدريس في »المعهد العالي« نواة الجامعة التونسية التي كانت دروسها تلقى في تونس والامتحانات يتم اصلاحها في فرنسا وتدوم فيه »الليسانس« سنتين فقط وذلك حتى يتسنى للدولة الناشئة تأمين تعليم جيّد من طرف ابناء البلد.
وينجح الطاهر الشريعة بتفوق.. وفي الصائفة يتمّ تعيينه استاذا للاداب واللغة العربية بصفاقس...
(8)
❊ التدريس في صفاقس
صفاقس! وما أدراك ما صفاقس، رغم اني مغرم بالنكت حول صفاقس والصفاقسية فإنّني أجلّ هذه المدينة وأهلها أيّما اجلال، واعتقد راسخا انّ صفاقس هي العاصمة الفعلية والحقيقية للبلاد وأن تونس استلبت من صفاقس ريادتها، لماذا؟لأنني شخصيا أدين الى الصفاقسيّة بحياتي واستسمح القارئ أن أستطرد وأحدّث عن مسيرتي الشخصية وسوف تفهمون ذلك...
فصفاقس هي آخر قلعة صمدت ضدّ الاحتلال عام 1881 ومن صفاقس انطلق فرحات حشاد والاتحاد العام التونسي للشغل ولولا صفاقس لما اشتد عود الحزب الحرّ الدستوري التونسي وفي صفاقس اشتد عود الاقتصاد بالكدّ والجدّ وبتعصير القطاع البنكي على يد ذلك العظيم منصور معلّة ومن صفاقس خرج الرائع والعظيم محمد الشرفي ومن صفاقس أتى رائد الصحافة والاعلام سي الحبيب شيخ روحه رحمه الله الذي ومن تحت معطفه خرج الصحافيون الشرفاء...
ومن صفاقس وهذا بيت القصيد اشتد عود السينما التونسية.. حتى خرج منها أساطين السينما اليوم واكتفي بذكر النوري بوزيد كمخرج والطيب الجلولي من أكبر مهندسي الديكور في العالم هذا الى جانب الموسيقى واكتفي بذكر الجموسي.
في صفاقس انكب الطاهر الشريعة على عمله كمدرّس سوف يحدث شرخا في بيداغوجية تعليم العربية إذ سينقل تدريس اللغة العربية من الحفظ عن ظهر قلب لألفية ابن مالك والاجرومية ودراسة النحو والعروض الى الدخول الى عصر دراسة النص اسوة بتدريس اللغة الفرنسية التي كانت تعتمد على ذلك الكتاب الجميل (La Garde et Michard) الذي كرعنا منه الادب الفرنسي في أجزائه الستة والذي اكتشفنا بين طيات أجزائه لوحات الرسامين في العالم وكأننا نزور متحف اللوفر في طبعة أنيقة ما أحوجنا اليوم الى كتب مماثلة لتدريس لغتنا الجميلة.
فقد حدّثني سي محمد الشرفي رحمه الله عليه انه لما اكتشف التلاميذ دروس الطاهر الشريعة... قام زلزال في تصرف الشباب ازاء مدرّسي العربية الذين كانوا قد قدموا من جامع الزّيتونة والذين يعتمدون على الحفظ والنقل.. فكان التلاميذ يردّدون ان تدريس الطاهر الشريعة للغة العربية تشبه دروس الرياضيات والفيزياء فقد تتلمذ على يده العديد من إطارات تونس اليوم ولا أذكر الا محمد الصيّاح ومحمد الشرفي في نفس القسم و الصادق مرزوق والتيجاني الحدّاد والدّكتور محمد البحري ومنصف الزغيدي والقائمة طويلة طويلة وقد كان أحد المديرين في المعهد تونسي متزوج بأجنبية، كان بيته يجمع جلّ كوادر صفاقس فكان الطاهرالشريعة ينظم الى المجموعة التي من بينها مصطفى الفيلالي وعبد العزيز العقربي المساهم في انقلاب 1962 ومحمد الكراي أستاذ الفلسفة والدكتور جورج خيّاط وكذلك المرحوم النوري الزنزوري الذي سيكوّن ثنائيا سينمائيا مع الطاهر الشريعة وسيؤسس ذلك الثنائي كل دعامات السينما التونسية..
(9)
❊ نوادي السينما
تاريخ حركة نوادي السينما لم يكتب بعد.. لانعدام الوثائق ولعدم وجود باحثين مختصين في التاريخ الثقافي اذا ما استثنينا الباحث المتمرس والمتواضع »الحبيب بلعيد« الذي أتحفنا بدراستين حول السينما في عهد الاستعمار....
تأسس أوّل ناد للسينما عام 1949 وقد كان وراءه شخص اسمه رزوقه لكن جلّ منخرطيه كانوا من الفرنسيين وتعرض افلامه في قاعة »معهد كارنو« وهي قاعة عرض جميلة في بداية نهج رومة اليوم وقد اكتشفت في حديث لي مع المؤرخ الكبير والمستعرب والعالم »اندري ريمون« الذي ترجم ابن ابي الضياف انه لما كان مدرسا في »معهد كارنو« كان من مؤسسي ذلك النادي وكان »اندري ريمون« مناضلا نقابيا واشتراكيا عمل ضمن الاتحاد العام التونسي للشغل وأسرّ لي انه يملك افلاما هاوية صوّر فيها مظاهرات الاتحاد.
وفي عام 1950 تأسست الجامعة التونسية لنوادي السينما التي كان نادي »لويس لوميير« بصفاقس أنشط نواديها... وهكذا في أواسط الخمسينات انتخب الطاهر الشريعة رئيسا لها في حين انّ مقرّ الجامعة كان في 2 نهج روسيا بتونس وكان نشاطها ينطلق من صفاقس، فإلى جانب نادي لويس لوميير الذي كان يؤمه الفرنسين أسس الطاهر الشريعة نادي سينما الشباب الذي كان يعلق ملصقا في كل قاعة وكانت على التوالي: نور / النجمة / الراكس / الكوليزي / الماجستيك تحمل جدولا بكل المعطيات حول الفيلم وبها تقييم النادي، وكانت الجامعة بمعية مجلس الثلاثة الطاهرالشريعة والنوري الدزوري واستاذ فرنسي غاب عني اسمه، يضعون على ملصقات الافلام التي يختارونها ورقة كتب عليها »يُوصي مشاهدة هذا الفيلم« وانطلقت من هناك مجلة »نوادي« أول مجلة في النقد السينمائي.. كان الطاهر الشريعة أوّل من يكتب النقد في جريدة »الانباء الصفاقسية« التي كان يرأس تحريرها المصور الفوتوغرافي »اندري موزي«...
(10)
❊ بذرة الديموقراطية التي لم تنبت
كان الطاهر الشريعة في صفاقس الى جانب التعليم مناضلا في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي انخرط فيه منذ السنة الاولى بعد تخرجه من الصادقية حيث عمل معلمّا في احد مدارس المدينة وفي صفاقس شارك في كل المظاهرات وكل النشاطات حتى انتخب كاتبا عاما لنقابة التعليم وكان قد خاض معركتين كبيرتين مع مصطفى الفيلالي واحمد بن صالح ضدّ مؤتمر صفاقس الشهير الذي كان مؤتمرا لتوحيد كل الاتحادات: الشغل، والصناعة والفلاحة والمرأة التي أرادها بورقيبة ووزيره الطيب المهيري أن تنظم اتحادا واحدا..
وتأتي أول انتخابات تشريعية فنجد الطاهر الشريعة يدخل تلك الانتخابات على رأس »قائمة الجبهة الديمقراطية« التي كان شعارها في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي والتي سنفرد لها صفحة في هذا الملحق.
(11)
❊ إدارة السينما
في رسالة أهداني منها سي الطاهر نسخة في 6 صفحات مؤرخة في عام 1957وجهها الى وزارة الثقافة يطالب فيها بتأسيس ادارة للسينما في صلب الوزارة وفعلا لم تكن تلك الرسالة قد ركنت في الارشيف بل استجاب لها المثقف الشاذلي القليبي وفعلا وبسرعة احدثت تلك الادارة التي اسندت مهام تسييرها للطاهر الشريعة... واحقاقا للحق فالمدعم لذلك رجل يجب ذكره واحترامه واعادة الاجلال له وهو المرحوم عبد الحكيم عبد الجوّاد الذي كان مدير ديوان الشاذلي القليبي، وقد كان شيوعيا كجلّ اسرته خدوما للدولة والثقافة والتفتح وبناء وطن آملا ان يكون نبراسه الحداثة والديموقراطية. هكذا شرع الطاهر الشريعة والنوري الزنزوري اللذان كلما رأيتهما معا اتذكر لوحة »بيكاسو« الشهيرة »دونكيشوت وسانشو«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.