نشَرَ بحثًا في الحماسة وأربعةَ كتب للأطفال وروايتين، إلاّ أنّه شاعر أساسًا. ومنذ قرأتُ له مجموعته الشعريّة الأولى «احتراق الشذى» سنة 1993، ومنذ التقيتُه أوّل مرّة بعد صدور مجموعته الثانية «نبالات مهجورة» سنة 1999، وأنا سعيد به، ومُعجَب بما اجتمع لديه من توهّج النصّ ونُبْل التعامل الإنسانيّ، فرح بانضمامه إلى تلك الباقة المتنوّعة من الأسماء السابقة والجديدة التي ما انفكّت تؤكّد أنّ الشعر التونسيّ بخير، على الرغم ممّا يتوهّم المتوهّمون. قد لا يحتاج قرّائي إلى العنوان الثالث «مراثي القرن» المنشور سنة 2005، كي يعرفوا أنّي أعرض إلى الشاعر مجدي بن عيسى، بمناسبة صدور مجموعته الرابعة «ديوان اليوميّ»، عن دار إشراق (2010. 103ص). قلتُ إنّها «مجموعة»، بينما هي أقربُ إلى «الكتاب الشعريّ»، بالنظر إلى أنّ القصائد الإحدى والأربعين موزّعة على خمسة أبواب (أمتعة الكتابة، شؤون عائليّة، الحرب على الإرهاب، أعمال الشاعر، ألحان مصاحبة.. ) ينتظمها خيط رابط شديد الدقّة يدلّ عليه العنوان العامّ، ويتمثّل في لافتة «اليوميّ».. وهي لافتة أعيد إليها الاعتبار في السنوات الأخيرة، وأريد التوقّف عندها بعض الشيء، لاعتقادي بأنّها تمنح العمل جانبًا كبيرًا من طرافته، بعد أن عرف الشاعر كيف يتناولها بذكاء وموهبة. المقصود باليوميّ ذلك البعد الآنيّ الفوريّ العابر من الحياة الذي يشكّل إيقاعها المباشر.. وقد عرف الشعر كما عرفت الفلسفة تجارب كثيرة تُحاورُ وقائعَ اليوميّ وتستنطق قناعه البسيط في ظاهره، كاشفةً عمّا خلف القناع من عمق وجمال.. هكذا تعدّدت المؤلّفات الفكريّة التي تخوض في فلسفة اليوميّ، كما تعدّدت النصوص الشعريّة التي تتعامل مع عناصره ومفرداته بلغة عميقة بسيطة تنزع إلى التخلّص من البهرج، وبأسلوب مُحكَمٍ سلس يرفض التعقيد المتصنّع، وبشعريّة مرهفة لا تقلّ عن غيرها إيحاء وفتنة. وهو ما أحكم مجدي بن عيسى بناءه منذ قصائد كتابه الأولى، حين وصم المجازات بالفخاخ، وحين رسم الصمت في شكل إبرة يخيط بها الشتات، وحين انتسب إلى شعراء الهايكو المرحين، «الذين لا تشغلهم أخيلة ومجازات، بل تكفيهم أسماءُ الأشياء مُجرّدةً لتكون». قبل أن يأخذنا بهدوء آسر إلى تفاصيل البيت، ومواء القطّة، وشجون الزوجة والأطفال، وأواني المطبخ، وهدير السيّارة.. دون أن ينسى ما يطالعنا به اليوميّ أيضًا من هموم الحرب على الإرهاب، والعولمة، والحرب الاستباقيّة، والبحث عن الديمقراطيّة، والانتخابات العربيّة. قد يذهب الظنّ بدعاة النقاوة الشعريّة إلى أنّ بعض هذه التيمات غير شعريّ، أو مناسباتيّ ومباشر.. وهو ظنّ خاطئ، لأنّ الشعر لا يتطوّر ولا يحفر مجراه إلاّ من خلال مثل هذه التحدّيات.. وقد عرف مجدي بن عيسى مثل كلّ شاعر موهوب، كيف يتناول «تفاصيله» شعريًّا، أي عن طريق مخاتلتها ورسم مسافة بين حقيقتها المباشرة وحقيقتها الشعريّة كما تجلّت في قصائده.. انظر إليه وهو يلتفّ على عنوان قصيدته «الحادي عشر من سبتمبر»، فيكتب: «لستُ سكران ولكنّي.. رأيتُ الوحش يُجهشُ باكيًا من وخز إبرة..»، وانظر إليه وهو يراوغ أُفق انتظارنا بقصيدته «حرب استباقيّة»، فيكتب ساخرًا: «الصراصير التي تُرهبُ أبنائي وتثني زوجتي، عن دخول المطبخ المسكون بالأعداء، قد آن الأوان، كي أطاردها، في منزل الجيران.. ». كلّ ذلك وهو يفكّر في ذاته كشاعر فيحصي ذنوبه ويستفسر الحكماء ويتأمّل العمر ويستأنس بشارل ازنافور وتشايكوفسكي وطبول بورندي والجاز والفلامنكو وغناء الكرد وموسيقى الأتراك.. بل كلّ ذلك وهو يطرح أسئلة الحياة والموت والحبّ والسعادة والعدالة والحريّة والغربة والضياع والفقدان.. أي وهو يطرح الأسئلة الكبرى من خلال أسئلة تبدو صغيرة، وتبدو تفصيليّة، في معادلة من السهل الممتنع تدفعنا إلى محاورة اليوميّ المباشر كي لا نصبح مجرّد دمًى استهلاكيّة ترتدي حياتها مثل الكفن.. وفي مغامرة شعريّة فكريّة لا تنطلق من نخبويّة ولا تقع في ابتذال، بل تردم الفجوة بين الشعر وجمهوره، فإذا في وسع الشاعر أن يكسب القارئ دون أن يخسر الشعر. عمل جميل لشاعر جميل، أدعو قرّائي إلى اغتنامه ولهم عليّ أنّهم مستمتعون.