لم أقرأ لنصر حامد أبو زيد الا متأخرة، بعد الضجة التي أثارتها بحوثه، لم أجد فيها ما يبرر كل تلك الثورة التي وصلت الى حد التكفير، فحامد أبو زيد له حق الاجتهاد الذي دعا إليه الاسلام، ولم يذكر كفراً، فقد توصل من خلال دراساته أن القرآن نص تاريخي وثقافي وهذا ولّد لدى البعض أزمة لا تزال مستمرة. اذ فهم من التاريخي انه زماني، ومن الثقافي فهم أن المقدس قد تأنسن. ومع ذلك هناك في كتاب «مفهوم النص». اشارات واضحة لاحتمالات دراسة أوسع في المستقبل. فهذه الأسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه، قام بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، دون احساس بالخوف أو الخطر، لكن بمحاذير لا يمكن أن نقلل من شأنها. انفتح أمام الباحث أفق يفكك الأسطورة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهمة أن لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة. حضرت لقاء مع نصر حامد أبو زيد في ماي سنة 1999، ضمن أسبوع دار المدى الثقافي، في المركز العربي بضاحية المزة بدمشق، وكأن كل الشام قد زحفت لحضور المحاضرة، رغم الطقس الحار اكتظت الصالة بالحضور، فالتجأ المنظمون الى شاشات التلفزيون داخل القاعات، وشاشة عملاقة على الجدار الخارجي للمركز، وشغلوا أجهزة الصوت المكبرة حيث اجتمع الناس على طول الشارع وعرضه، وتوقفت حركة مرور السيارات لمدة أربع ساعات أو أكثر, وقدم نصر حامد أبو زيد المفكر السوري صادق جلال العظم. نشأ نصر حامد أبو زيد في عائلة فقيرة في ريف طنطا، وكان من الصعب على عائلته أن توفر له مواصلة تعليمه العالي لضرورة اعالة الأسرة من خلال وظيفة متوفرة، لكنه ثابر في محاولة لاستكمال دراسته واستطاع الحصول على الدكتوراه من جامعة القاهرة، ولم تكن الدكتوراه هي الهدف الأصلي للدكتور، كان يطمح إلى انجاز مشروع فكري يرتكز على النقد الجذري لكل الأصول التراثية التي تشكل مفاهيمنا ووعينا، ونتلقاها من جيل الى جيل، ونضفي عليها أشكال القداسة والتقديس. تعرض نصر حامد أبو زيد للعنيف من الظلم والتجني، رغم أن أسئلته الحيوية اعتمدت منهج التأويل لقراءة التراث الفكري الاسلامي قراءة عصرية واعية، وان كانت الأسئلة شائكة فالأجوبة كانت أكثر تعقيداً، لأنها عرضته لفضيحة انغلاق من يدعون العلم والمعرفة، وابعاده من الجامعة التي قضى عمره باحثاً في أروقتها، فألغوا كتبه من رفوف مكتبة الجامعة. ولم يكفهم ذلك، بل ان فقهاء التعتيم رفعوا عليه دعاوى الحسبة (والحسبة في الشرع الاسلامي كما عرفها الغزالي عبارة عن المنع عن منكر لحق الله تعالى صيانة للممنوع من مقارفة المنكر). خمسة عشر عاماً منذ صدور الحكم ضد حامد أبو زيد، شهدت فيها الفترة حالة جدل شديد لم تقتصر على مصر فقط، بل امتدت عربياً، وكان الحكم أشهر قضايا التكفير لكاتب في القرن العشرين, اذ صدر ضدّه حكم قضائي نص على تفريقه عن زوجته بناء على الدعوى التي اعتبرته مرتداً, فقد تسبب الحكم والجدل حوله في الغاء قضايا الحسبة من هذا النوع، الا أن الدكتور عبد الصبور شاهين صاحب التقرير الذي استندت عليه الدعوى القضائية، أنكر فيما بعد أنه قام بتكفيره، فهل سيعود الجدل حول القضية حتى بعد وفاة نصر حامد أبو زيد. أصدر أبو زيد العديد من الكتب من أهمها «الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة» و«فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي» و«أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة مدخل الى السميو طيقا» و«مفهوم النص دراسة في علوم القرآن». وعن أسباب رفض الدكتور عبد الصبور شاهين للأبحاث التي تقدم بها نصر حامد أبو زيد للحصول على الترقية قال في حوار صحفي إن: «أولاً: أبو زيد دعا الى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها نصوص دينية تكبل الانسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو الى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا». ثانياً: «يقول إن القرآن منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وانه ينتمي الى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب الى الثقافة التي تشكل منها».. ثالثاً: «قرر أبو زيد بتفكيره الخاص أن الاسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد». رابعاً: «هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق في الخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الايمان». وأضاف شارحاً تقريره برفض الترقية «حفلت أبحاثه التي قدمها بكثير من الأخطاء التاريخية والعلمية، وقد كتبت في التقرير الذي أقرته اللجنة أن أبحاثه جدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في أحشائها جنيناً جدلياً متجادلاً بذاته مع ذاته.. وليست هذه سخرية، ولكنها كانت النتيجة التي يخرج بها قارئ الكتاب اذا اعتبرنا الكتاب كتاباً». محنة نصر حامد أبو زيد كانت وما زالت محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن. وكأن الفكر الحر والنقدي محكوم عليه أن يبقى أقلويا.