وردت علينا هذه المساهمة من الاستاذ محمد الفقيه في جزئها الأول الذي ضمنه أسئلة وملاحظات واستذكارا لاحداث ومحطات مهمة من تاريخ تونس... فإلى هذه المداخلة. حوار وإعداد فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي كنت قد تابعت بشغف بعض مذكرات الاستاذ أحمد بن صالح التي تفضلتم بنشرها في ركن «مذكرات سياسي»، وككل أبناء الجيل الذي لم يعايش التجربة الاشتراكية التونسية في الستينات، تعلمت من جريدتكم الموقرة ما لم أكن أعلم عن الخطوات الاولى لتونس المستقلة، لقد كانت حواراتكم مع الاستاذ أحمد بن صالح فرصة ليخلص جيلنا من ظاهر الاخبار الى باطن التحقيق، وهو جيل قدر له أن يتحمل مسؤولية كتابة تاريخ تونس في بداية استقلالها، بعد أن يروى من مثل هذه الشهادات فيخلص الى الحقيقة كاملة ويدونها بسياق علمي وموضوعي فتعم الفائدة وتستخلص العبر. بعد ما أتحفنا به سعادة المنجي الفقيه (والي القيروان في فترة التعاضد واحد المتهمين باطلا في ما سمي بقضية الخيانة العظمى) في شهادته التي تفضلتم بنشرها على ثلاث حلقات، لن أدعي اضافة حقائق جديدة، ولو فعلت، لكنت كمن يفتي ومالك في المدينة، انما أضع هذه المداخلة المتواضعة في اطار التعليق البسيط، أسوقه في... نقطة واختم كل نقطة منها ببعض الاسئلة التي أوجهها للأستاذ بن صالح، راجيا أن تنال أسئلتي الجواب الشافي وأن تفيد قراء الشروق. 1 أحمد بن صالح: رجل تسكنه كاريزما القيادي منذ الطفولة: «عرفت بن صالح منذ الثانية عشرة من عمري... عند دخولي المعهد الصادقي في غرة أكتوبر 1938... كان أمام المعهد حشد من الذكور مختلفي اللباس... واتفق لي أن اتجهت الى مجموعة صغيرة تلتف حول يافع ذي وجه وردي زاه، وحاجبين كثيفين... مرسومين رسما عريضا، وعينين صافيتين، ونظر وقاد، وايماءات لا تنقطع، كان يرتدي «غندورة» كما كان يقول فرنسيو ذلك العهد قصيرة وفضفاضة في ذات الحين، يردها باستمرار على كتفيه في حركة آلية، كان هذا هو أحمد بن صالح، وبجانبه كان يافع طويل ممشوق القامة، خفيف شعر الجبين بعض الشيء، هو محمود بن ناصر. كان ذلك لقائي الأول بهما وبقيا مدى الحياة صديقيّ، من الجلي أن بن صالح كان منذ ذلك الحين على ذلك الذكاء الوقاد وعلى تلك السخرية اللاذعة التي يعرفها الجميع والتي كان ضحيتها كل مخاطبيه بدون تمييز أصدقاء وخصوما بحسب نزوته ومزاج الساعة وهو ما كان يجلب اليه طول حياته عددا متزايدا من الاعداء». هكذا وصف الأستاذ الشاذلي القليبي أحمد بن صالح حين سألته جونوفياف مول (Geneviève Moll) عن أول لقاء جمعهما. إن هذا الوصف الدقيق يحيلنا لا الى رهافة حسّ الأستاذ الأديب الشاذلي القليبي وقوة ذاكرته فحسب، بل أيضا الى تلك الشخصية القيادية وتلك الكاريزما التي فطر عليها بن صالح على ما يبدو والتي أهّلته للاضطلاع بمهام جمّة في شبابه. فعندما نقرأ ما قاله الأستاذ القليبي في بن صالح الطفل ونطّلع على ما ورد في شهادة سي أحمد بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات حول طفولته، نتساءل: في ظلّ الظروف الصعبة التي عاشها الأستاذ بن صالح في طفولته (إفلاس والده سنة 1934، مجاعة سنة 1937: «عام الرّوز»، اعتقال والده ومحاكمته..) هل سكن مشروع «أحمد بن صالح القيادي والسياسي» ذهن بن صالح الطفل؟ وبما كان يحلم ذلك «اليافع ذي الوجه الوردي الزاهي»؟ 2 التعامل بين بن صالح وبورقيبة: بين نرجسية الزعيم وصلابة الوزير: عن أسلوبه الساخر وروح بن صالح المرحة حدّثنا الأستاذ القليبي وفعلا، من يتحدث لسي أحمد، لا يمل سماعه، لأسلوبه المنهجي والبسيط ولروحه المرحة التي لا تكلّ المزاح الذكي والمليء معنى. وأذكر في ما أذكر ما قاله لي سي أحمد عندما سألني عن سنّي. بعدما أجبته، وفي أقل من ثانية، قال «أجدني أصغر منك ب15سنة.. طبعا لو ضربت سنّك في 3». وغير هذه المواقف كثير، تدلّ على خفة روح الأستاذ بن صالح، ومنها ما أورده الاعلامي السيد محمد الحبيب السلامي في مداخلته المنشورة بتاريخ 25 جويلية 2010 فهل كان أحمد بن صالح يخاطب بورقيبة بنفس الأسلوب الذي لا تغيب فيه السخرية المرحة؟ وإن كان كذلك، فهل للأستاذ بن صالح أن يعطينا أمثلة؟ إن المتابع للشهادات الواردة على مرحلة تقلّد سي أحمد مسؤوليات سياسية مختلفة في حكومة الستينات، يستنتج، دونما تأكد قطعيّ، أن الأستاذ أحمد بن صالح كان يتحدث مع بورقيبة بندية تصل أحيانا حدود الجرأة. يستشفّ هذا من خلال ما قاله سي أحمد عندما تحدّث لقناة «العربية» عن رفضه في البداية وزارة التخطيط والاقتصاد وغضب بورقيبة من ذلك، ثم عن رفضه التفريط لبشير زرق العيون في أراض حكومية. وقد تعامل بورقيبة مع هذا الرفض الأخير بحكمة حذرة، إذ مدّ بن صالح، مبتسما، بمخطوط لصالح بن يوسف ورد فيه مخطّط لاغتيال بورقيبة، وذلك قصد إقناع سي أحمد بمزايا زرق العيون وحقّه في المحاباة (رتّحني من هاك اللّفعة). والعادة أن بورقيبة يستشيط غضبا إذا لم تنفّذ أوامره ويصبّ جام غضبه على المسؤول «المتمرّد». فاعتماد بورقيبة أسلوب الإقناع مع بن صالح، إنما يدلّ على تجنّبه مشاحنة كلامية قد تضع في كفّتي ميزان نرجسية الزعيم من جهة وتمسّكه ببن صالح واقتناعه بنجاعة عمله من جهة أخرى. ألا يرى الاستاذ بن صالح أن اعتماده هذا الاسلوب في التواصل مع بورقيبة سهل على خصومه التعجيل باعدامه سياسيا؟ 3 التعاضد: ان التعاضد أو التجربة الاشتراكية التي عاشتها تونس في الستينات، تبقى بالنسبة لجيلنا الذي لم يعايشها، مبهمة ويعلوها غموض، كيف كان بالامكان فرض تجربة اقتصادية اشتراكية على شعب عاش ليبيراليا (ان صح التعبير) لمدة 3000 سنة؟ هل أن سياسة التعاضد المعتمدة في الستينات قد أخذت بالاعتبار العقلية التونسية وموروثها الثقافي والاجتماعي أم أرادت تلك السياسة أن تطوع، عنوة وفي وقت قياسي، العقلية التونسية للأفكار الاشتراكية؟ هل تقبل التونسيون فعلا مبدأ التعاضد أم قابلوه بشيء من التململ والرفض المبطن؟ هل رافقت السياسة التعاضدية سياسة تربوية اجتماعية تربي التونسي على مبادئ الاشتراكية المتبعة أم فرضت مبادئ التعاضد بسياسة الامر الواقع؟ قد لا أطلب من الاستاذ بن صالح أن يجيب مباشرة عن هذه الأسئلة، اذ سبق وان أجاب عن أخرى تشابهها من حيث المضمون، بل أرجوه التفضل بالتعليق على ما قاله الاستاذ الشاذلي القليبي في هذا المضمار اذ يقول ل Geneviève moll: «كان بن صالح بتأثير من أفكار صديقه السويدي طاغ ايرلندر (Tage Erlander) الاشتراكية يريد تجديد هياكل البلد الاقتصادية بواسطة النظام التعاضدي، وما كان في السويد وهو بلد متقدم شديد التجذر في اليسار ممارسة اقتصادية اجتماعية مقبولة من قبل قطاعات من السكان عريضة، اصطدم في تونس بمجموعة من العقبات أريد القضاء عليها بطريقة تسلطية مما أحدث تململا متزايدا، كان ذلك كامنا محدودا أول الامر ثم ما لبث أن شمل كل القطاعات». ما أود توضيحه، مهما كانت اجابة الاستاذ بن صالح، أن جيلنا، بعد ما اطلع عليه من حوارات ومذكرات ووثائق، باتفاقها واختلافها حول الحقائق التي سيرت مرحلة التعاضد، له قناعة راسخة بأن الاستاذ بن صالح ومعاونيه كان هدفهم أوحد: مصلحة تونس والارتقاء بها دون حسابات شخصية أو تأمين على مصالح ذاتية، الا أنهم أفرطوا في التحمس لأفكارهم، وان كانت بناءة فقوبلوا بما قوبل به الحلاج الذي بالغ في التزهد فرمي بالزندقة ولعل ذاكرتي لا تخونني حين أذكر تصريحا لأحد وزراء السبعينات (أظنه السيد المنجي الكعلي) اذ يقول: اضافة الى سخاء الغيث في بداية السبعينات، فقد استفادت حكومة المرحوم الهادي نويرة من البنية الأساسية التي خلفتها مرحلة التعاضد بقيادة بن صالح».