٭ تونس «الشروق» كتبت فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي «دارفور» بلاد الثروة الفلاحية.. وثروة الماشية بلا منازع.. ولكنها كذلك بلاد المعادن النادرة.. والثمينة.. فهل يمكن أن يقتنع زائر إلى هذه الربوع، بمظاهر «القحط» هناك.. والبلاد تزخر بما تزخر به من ثروات، لو دخلت معادلة منوال من مناويل التنمية.. لأقلع السودان كلّه نحو فضاء، تحلّق فيه اليوم أقطار مثل ماليزيا أو كوريا أو تركيا.. مظاهر الحرب والاحتقان، يؤكدها لك الحضور العسكري و«الإنساني» للمنظمات الأممية.. وكذلك الجمعيات غير الحكومية العالمية.. ولكن مظاهر الاحتقان ذاتها.. ومظاهر الخصاصة التي تبدو لك واضحة، تنفيها الروح السودانية والقبلية، بين النّاس في برّ السودان.. يحلو للفرقاء، أن يختار كلّ منهم حليفه، ودائرة التحرّك على حلبة الصراع.. ولكنك لا ترى السوداني يولّي وجهه عن ابن بلده.. أو ابن بلدته.. أو ابن قبيلته.. في «دارفور» كما في الخرطوم.. وغيرها من المدن السودانية والقرى، لا يعترضك سوداني وقد تملّكه تشنّج.. تدخل سوق «دارفور» فإذا بالحركة عادية.. والعلاقات عادية بين النّاس.. لا تشنّج.. ولا أصوات عالية.. كلّ يتجه صوب ما يصبو إليه وما أتى من أجله وكفى.. التجارة في «دارفور» يقول أحد الباعة في السوق، تأثرت بالوضع المستجد.. فصناعة الأزمات.. وصناعة الحروب، وجدت رواجا في هذا الاقليم، إذ بحكم موقعه الجغرافي أو بحكم تكاثر المضاربة بالسلاح.. «كسلعة» جديدة، تذكّرك قصص اقتنائها بما حدث بين الأوس والخزرج (قبيلتان عربيتان ما قبل الإسلام)، حين كانت القبيلتان تتخاصمان وتحتربان، وفي كلّ فصل من الحرب، يشتعل فتيل الضغينة بين الفرقاء.. وما لبث الفرقاء على تلك الحال، حتى انبرت «حكيمة» من نساء العرب زمانها، وقد تفطّنت إلى أن المزوّد اليهودي بالسلاح، كان يفعل ذلك مع القبيلتين في آن واحد.. فصاحت فيهم أن أوقفوا الحرب بينكم، وانظروا إلى من يزوّدكم بسلاح الاقتتال.. فهو واحد لا ثاني له.. في مثل هذا الاطار، يمكن أن تفهم النّار المتأجّجة في دارفور.. وضع من الاحتراب، تستفيد منه البعثات الأممية (ماديا) كما ذكرنا بالأمس، وتستفيد منه المنظمات غير الحكومية، ممّن تفقه السياسة وحقوق الانسان في «دارفور» وتغفل عنها في «الأمازون AMAZONE» وفي أطراف فرنسا، وليست قضية «الغجر» سوى واحدة منها.. عندما كنّا في زيارة «دارفور»، كان الفرقاء قد حلّوا لتوّهم في الدوحة، لإجراء محادثات ومفاوضات.. وبقطع النظر عن الجهة الداعمة للسلام في «دارفور» أو الجهة الداعمة للحرب فيها، فإن أبناء الاقليم، وبحسب ما أمكن لنا رصده في المعسكر (مخيم اللاجئين) من الناس، الذين هجّروا من ديارهم ومزارعهم، هو أنهم دعاة سلام.. وأن الجميع مستعدّ لتقديم أيّ تنازل من أجل الاستقرار.. كيف لا، وأهل «دارفور» تعودوا على الاستقرار والحركة معا.. لكنها حركة ضمن الاقليم وليست خارجه.. عندما تسأل أيّا كان، من الناس هناك، رجلا أو امرأة، يقول لك، ان الصراع على المرعى والزرع، هو صراع أزلي.. عندما يأتي صاحب الماشية من الشمال باتجاه الجنوب، يكون خطّه البياني الذي يؤشّر تنقّلاته، ويصبغها يهمّ الأمطار.. الأمطار الموسمية.. لكن لماذا ينفجر الوضع الآن بالذات، وقد كان أزليا ولم يحدث لأهل «دارفور» ما حدث لهم الآن، من تهجير وموت واحتراب؟ يقول شيخ «دارفوري» صاحب أرض وزراعة، وينتمي الى احدى القبائل الدارفورية المعروفة، إن اكتشاف النفط في هذا الاقليم اضافة الى اليورانيوم، الذي أسال لعاب الأمريكان، وحرموا منه بقرار حكومي، لصالح الصين (على ما يبدو) زاد في سعير نار الحرب.. كيف؟ هنا يأتي ما أطلقنا عليه بصناعة الأزمات.. أو ما يمكن أن نطلق عليه «حرب الإرادات» للتمكّن من الثروة والخيرات، التي تزخر بها «دارفور».. اضافة الى أن المشروع الأمريكي للمنطقة العربية، وهو تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ.. أهل «دارفور» واعون بما يحدث.. ووعيهم أكبر بخيوط اللعبة، لذلك يناشد «الشيخ» الدارفوري، المتفاوضين بالدوحة، أن انزعوا فتيل الحرب، وحافظوا على وحدة السودان.. النفط في جنوب دارفور وفي غربه، وهو اكتشاف حديث.. وعوض أن يكون هذا الاكتشاف، اضافة جديدة من أجل منوال تنمية تحتاجه السودان من دارفور الى الجنوب ومن الشرق الى الشمال فالغرب، سبقت «حمّى» الهيمنة والاستعمار، كل مخطّط وطني.. أحد المثقفين السودانيين، قال ل«الشروق» مفسّرا هذه الظاهرة: في منطقة الجنوب، أين تعمل القوى الخارجية بالتعاون مع البعض بالداخل على انفصاله عن الوطن، وعوض أن يشجعهم «جماعة الأممالمتحدة» على الزراعة والعمل على إحياء أرض، لو زرعتها مسامير لأنبتت شجرا، هناك أين الماء والتربة الغنية، فإن هؤلاء (جماعة الأممالمتحدة) يقدمون للسكان الأكل في أطباق والخبز كل يوم.. حتى يعزفوا عن العمل والجهد بالأرض.. ويديمون الأزمة.. فهل هناك أشدّ أنباء من هذه القصّة، للتأكيد على أن السودان كلّه الآن، في قبضة السياسات المستقوية في العالم؟ فإلى الحلقة القادمة: «الشروق» في مخيّم اللاجئين بدارفور..