جلس في فضاء خارجي، بحديقة مقرّ ولاية «فاشر» شمال دارفور... وجلسنا إليه مستفسرين عن قضية طفت على سطح أحداث السودان، «فجأة»... بدت «الفاشر» ولاية شمال دارفور في تلك العشية، كما قد تبدو كل هذه المدّة، اسما متداولا عبر وسائل الاعلام العالمية، ويرد (هذا الاسم) عبر التصريحات والتصريحات المضادّة... هل هناك مشكلة في دارفور؟ هل هناك قضية تحمل هذا الاسم؟ إذا كان الأمر كذلك فما هي عناوين هذه المشكلة أو هذه القضية؟ ومن هي الأطراف المتداخلة فيها؟ ثم وباختصار: لماذا الآن يُطلق العنان لهذه القضية التي تحمل اسم مدينة أو اقليم من أكبر الاقاليم السودانية، عرف بتجانس أفراد مجتمعه دينيا (الكل مسلمون) وعرف باستقرار تاريخي قوامه التصاق الانسان في الأرض... هو السيد ادريس عبد الله حسن سليمان، وزير الشؤون الاجتماعية بدارفور ونائب الوالي. وقد سبق له أن شغل منصب الحكم المحلّي والخدمة المدنية، كما عمل ايضا نائبا للمحافظ في وقت سابق متخرّج من جامعة «أم درمان» الاسلامية قسم لغة عربية في مستوى الاجازة، ثم تحصّل على الماجستير في الادارة العامة حيث حمل عنوان البحث احد مشاغل اهل دارفور والسودان: «الحكم والادارة» دارفور مثالا. كان يتحدّث بهدوء، تغلب الحكمة علىمنطوقه، حيث لا يقدّم لك مثلا أو مثالا الا متى أقرنه بالحجّة والبرهان. المنطلق كان من سؤال حول قضية «دارفور» فماذا عن المشاكل المثارة حول دارفور؟ وهل أن «دارفور» قضية بهذا الحجم الذي تدار به عبر المفاوضات والمشاورات عبر العالم؟ يقول وزير الشؤون الاجتماعية بدارفور: «أوّلا لابد من التأكيد ان المشاكل القائمة الآن هي مشاكل بدأت على أساس صراع بين القبائل... ولكنها مشاكل توسّعت أفقيا وعموديا لأسباب كثيرة... أولا: هناك أطماع داخلية وأخرى خارجية. فأمّا الداخلية منها فهي تهمّ السلطة السياسية والمال... فيما تهمّ الاطماع الخارجية خيرات دارفور. وبدأ نائب الوالي يعدّد الاسباب ويكشف ما لم نكن نعلم، فقال: «أوّل هذه الاسباب، تعدد كبير وأفواج من الناس دخلوا عن طريق الحدود المفتوحة مع «دارفور» من خارج السودان. كما أن التجارة المفتوحة بيننا وبين المناطق التي تزخر بالسلاح قد ساهمت في هذه الأزمة. من ذلك أن هذه المناطق التي أعنيها هي البؤر المشتعلة، مثل التشاد... عدد كبير جدا من قطع السلاح قد نفذ من تلك الحدود الى دارفور ناهيك أن اختلاطا كبيرا وقع بين سكّان المنطقتين. جزء كبير من التشاد يسمّيه السودانيون من قبل، كمنطقة غربية للسودان: السودان الفرنسي. ولكن الاتفاق بين الفرنسيين والانقليز أحدث جزءا من السودان الغربي وضمّه الى التشاد. كما أنه تجدر الاشارة الى أن قبائل عديدة من ليبيا والتشاد، زمن الصراع نزحت الى هنا. هذا اضافة الى أن الصراعات في افريقيا الوسطى أدّت الى دخول قطع كبيرة وعديدة من السلاح... الى السودان، اضافة الىأن الصراع جنوب السودان أدخل قطعا كثيرة من السلاح الى دارفور... فالجماعات المتصارعة أدخلت سلاحا كثيرا الى هنا. في ظلّ هذا المشهد، برز تجّار سلاح عديدون، مستفيدون استفادة مادية بالطبع فكان التحريض سيّد الموقف، بحيث بدا هذا الطرف وذاك أطرافا ليست لها قضية بل كل همّهم (الجماعات المعنية) هو دعم تجارة سلاحهم.. وهنا، لدى تفسيره الجانب السياسي في المسألة، لم يستثن السيد ادريس عبد الله، من «لهم طموحات سياسية» حيث شدّد على أنه «من لم يجد مكانه في المشهد السياسي بكفاءاته يدخل ويقتحم القبيلة ويستعملها ويقحمها في الصراع... من جهة أخرى، هناك عاملا التخلّف والأميّة، هذان العنصران أثّرا كثيرا في مسار الأزمةوتفاقمها، إذ عندنا نسبة عالية من الذين لا يقرؤون ولا يكتبون (الأميّة)... فدارفور يعتمد أهلها على الزراعة والرعي. وهناك عنصر آخر هام، وأعني التنمية... فهي غير موجودة... بل هي غائبة... وهذا ما أدّى الى البطالة... وحتى الذين تخرّجوا من الطلاب، قليل جدا من يحصل منهم على عمل... هذا الوضع أتاح لعدد من العاطلين بأن يكونوا ناقمين، وبالتالي أول ما خرجت المظاهرات الى الشوارع انضمّ إليهم هؤلاء الخريجون... وقد أوهمهم مشعلو الازمة، أنّهم (أي خريجي الجامعات) سيحصلون على شغل أو منصب بعد شهرين أو ثلاثة... ومن هنا أصبحت الاغراءات تساعد على الدخول الافقي كما ذكرنا. طبعا هذا مضاف اليه، أن الخدمات الاساسية غير موجودة، فليس هناك طريق معبّد من عهد الفراعنة... كانت دارفور مجموعة من المراكز والتجمّعات لا نوع من الطرقات المعبدة... تشق فضاءاتها.. لماذا كل هذا النقص في التنمية؟ أيكون الامر مرتبط بعلاقة معيّنة بين المركز والاقليم؟ هذا السؤال نحن بأنفسنا نهتم بجوابه ونسأله. فهناك الطريق الآتي من الخرطوم... ولكن من نيالى الى الفاشر والعكس غير موجود. هناك عناصر كثيرة جدا تضافرت في هذه المشكلة من ذلك أن الجفاف والتصحر أديا الى تحرك من الشمال الى الجنوب... لقد تركوها خالية وعشش فيها المتمردون، هاجر الناس من الشمال باتجاه الجنوب بحيث أصبحت هناك معسكرات... في «الفاشر» هنا، تجدون معسكرا نزح أهله أو سكانه من الشمال الى الجنوب أي جنوب دارفور... الجفاف دفع هؤلاء الى الهجرة من الشمال الى الجنوب... هل هناك دور العنصر الخارجي في اشعال أتون الصراع والحرب في دارفور؟ هو عنصر مهم، زاد الوضع اشتعالا، وأعني الاعلام الخارجي المضلل... ظللت هنا أعمل منذ سنة 1994 وعملت في «دارفور» الكبرى 26 سنة وكل المناصب والوظائف التي شغلتها كان لي فيها ارتباط بالمواطنين ومشاغلهم وبالتالي فإنني أعرف التركيبة السكانية لدارفور جيدا... هؤلاء أهلي... وقد شاركت في مفاوضات وجولات فض مشاكل... قلت الاعلام الخارجي المضلل يكمن في أن القائمين عليه من اعلاميين وصحفيين يفدون على السودان، ونستقبلهم في «دارفور» ونشرح لهم ويشاهدون عينة مما يقع.... ويسألون الناس... ويستمعون اليهم، وعندما يعودون يكتبون شيئا آخر... شيء لا علاقة له بما يقع هنا... وأستطيع أن أقص عليكما قصة: مرة طلبني من لندن صحفي عن ال «بي بي سي» (BBC) وقال ان حرائق تحدث هنا في فاشر.... سألته: أين هذه الحرائق؟ قال ان مصدره من الخرطوم وطبعا الصحفي في لندن... فقلت له: أنا هنا في «الفاشر» وليس هناك ما تدعيه... قلت له: ليس هناك شخص واحد يصيح... وليس هناك حريق...! مرة أخرى أشرفت على اجتماع في أمانة الحكومة وكان عندنا وفد عن الاتحاد الاوروبي تحدثوا معي عن كل الجوانب السياسية والاجتماعية وعن المعسكرات الخمسة بدارفور واذا بأحدهم يقول: الى متى سنبقى (كاتحاد أوروبي) نغذي مليوني نسمة وكان كل الذين نزحوا الى المدن الكبيرة واستقروا في المعسكرات المذكورة هم 451 ألفا والذين نزحوا بصفة عامة هم بين 450 و500 ألف. فلما قال ما قال: أجبته: العدد الذي عندي في كل دارفور هو مليون وتسعمائة ألف نسمة ونيف فهل تعني بالرقم الذي قدمته أن أهل «دارفور» كلهم لاجئون؟ وكلهم في المعسكرات؟ فلم يرد عضو الوفد الاوروبي، لكن هذه عينة من اخبار مغلوطة ينفخ من له مصلحة في حجمها لكن هناك في الطرف المقابل اعلاما صادقا ذلك أن صحفيا دخل أحد المعسكرات وتحدث مع الناس فبادره أحد المواطنين أنه لم يذق شيئا منذ يومين ولكن الشاي الذي كان يغلي أمامه والسكر والدقيق كانت كلها ظاهرة فقال له الصحفي وأين لك بهذا؟ تم أردف الزائر: اتق الله.... اضافة الى أن الذين ادعوا أن القتلى بالمئات بل بالآلاف، أجبناهم بأن يبرهنوا لنا عما يقولون بمقابر هؤلاء وأسمائهم فليس هناك انسان لا ينتمي الى قبيلة أو مجموعة... وقلنا لهؤلاء المدعين نحن لنا دفاتر مسجل عليها كل «الناس من 2003 الى غاية 2006 وصنفنا المسجلين عبر ستة (6) جداول... فإذا بحمار الشيخ يقف في العقبة... ما هي المقاصد من كل هذا الذي تقولون؟ وما هي الاسس قبل المقاصد؟ أما عن المقاصد فهي سياسية بحتة... وأما المنطلق المشجع لهذه المقاصد فهو يهم الانتاج الزراعي الذي قل جدا... وبدا أثر الجفاف والتصحر واضحا... كما اننا سجلنا نضوب منابع مياه في الارض... فمثلا، والذي لديه ستون نخلة (60) ماتت.. لهذا السبب. الماشية تأثرت كثيرا بفعل هذه العوامل... خاصة ندره المياه... بحيث يبس النبات، في بيئة لا اختصاص لأهلها ولا تعويل سوى على الزراعة وتربية الماشية... فقد سجلنا اختفاء لأكثر من ستة ملايين رأس بقر وأغنام وإبل من أصل عشرين مليون رأس... دارفور معروف عنها في الجغرافيا أنها أرض زراعية وأرض تربية ماشية؟ وهذا النوع من النشاط السكاني مؤذن عادة بالاستقرار فما الذي حدث؟ في شمال دارفور، تربية الماشية هي أساس الاقتصاد... فهذه المنطقة تعتمد على الزراعة وتربية الماشية معا... وفيها تنوّع زراعي من السمسم (الجلجلان) الى البطيخ (يقصد الدلاع).. إضافة الى ان دارفور المنتج الوحيد في العالم للصمغ العربي (للكتابة)... مع موجة الجفاف ماتت الأشجار اي تضرر الزرع والضرع.. هذه المساحات التي ترينها قاحلة أو شبه قاحلة كانت خضراء... لا تضاهيها مناطق أخرى في ذلك.. الجفاف اصاب المنطقة سنوات 1971 و1972 و1973 وعاد ليضر بها مرة أخرى في 83 و84.. وآخر جفاف، كبير جدّا كان سنتي 2008 و2009 لقد تضافرت الظروف من جفاف الى تنقل الناس من مناطق الصراع الى هنا... ماهي مقاصد الجهات الأجنبية؟ أما مقاصد الجهات الأجنبية، فهي كبيرة... شمال دارفور معروف منذ زمن السلطان «إيراب» في القرن السابع عشر، كان منجما سهلا للنحاس.. يستخرجون النحاس بسهولة (à ciel ouvert) ليس عميقا... ثانيا فيه حديد ورصاص، ومن مناطق مختلفة في دارفور... كل هذه المعادن الثمينة معروف أنها في شمال دارفور.. ثالثا، هنا توجد مياه جوفية شمال دارفور وبكميات كبيرة جدا. ثم ينتج شمال دارفور مادة «العطرون» وهي ذات استعمالات في الأدوية وتوضع في الماء لتشرب الحيوانات، حتى تسمن... اي تصبح عند المواشي شهية الأكل... هي عبارة عن أملاح مهمة في صناعة الأدوية... الآن متوقفة بفعل الحرب. هذه منطقة معادن ثمينة مازالت بكر.. رغم هذا ليس عندنا في السودان مصنع حديد ولا صلب واحد. أما النفط فقد اكتشف في شرق دارفور ويقال ان فيه «مانغنيز» وجير... براكن وجبال.. ما قصة الجنجاويد؟ «السالبات تبكيها الريشة» هذا مثل فسّروه كما تشاؤون... هذه الكلمة «الجنجاويد» موجودة من قبل... الجنجاويد هي عبارة عن مجموعة خارج القانون تستعمل العنف للسطو وإيذاء الآخرين.. هؤلاء ليس لهم قانون ولا تجمع بينهم علاقة قبلية أو دينية فقط المصلحة هي التي تجمع بينهم.. هؤلاء مثل «الصعاليك» مع الفارق الأساسي ان الشعراء الصعاليك كانوا يأخذون من القوي (بالقوة) ويعطون الى الفقير المحتاج... اما هؤلاء (الجنجاويد) فهم يفتكّون ويسطون لأنفسهم.. مثلا، في محل او مكان فيه الماشية ملك للناس، يسطو عليهم الجنجاويد بثلاثين او أربعين عنصرا وينقسمون الى ثلاثة أقسام: قسم يقود المسطو عليه من الأمام وقسم يسيّر الوسط، وفريق ثالث يكون وراءهم، لزرع الكمين... هؤلاء موجودون من زمان، لكن بتطوّر وسائل النقل الآن عوّضت السيارات الدواب.. في الماضي ينهبون وهم على أقدامهم الآن ينهبون بوسائل عصرية: السيارة والسلاح... أما عن أصولهم «فالجنجاويد» مختلطون اذ لا يمكن ان تحدد بيتا معيّنا او منطقة معيّنة... من ولايات «دارفور» الثلاث. هل السلطة معهم؟ أبدا، غير صحيح مثل هذا الطرح، انا اشتغلت رئيس لجنة أمن لأكثر من عشرين عاما، وأعرف كل أنواع المشاكل الأمنية وهي كثيرة ومتنوّعة... لكني أقول ان امكانات الدولة قليلة جدا، بالنسبة الى المساحة والعدد الذي عندنا من عناصر الشرطة قليل جدا... فهذه ولاية (دارفور) تمسح 292 ألف كلم2 عدد سكان الولاية 21 مليون نسمة ونيف... فكيف يمكنها (الدولة + الإدارة) ان تتصرف... ناهيك ان المتمردين عددهم كبير.. مع العلم ان «دارفور» هي منطقة «صالحة جدّا» لحرب العصابات... فيها وديان كثيرة وجبال وأشجار... وهذه كلها عناوين تساعد على الحروب القبلية ويمكن ان يعوّل عليها الغائرون. ماذا عن المشهد التربوي في دارفور؟ العدد الكلي للتلاميذ بين ثانوي وابتدائي في دارفور 340 ألف تلميذ، وجامعة واحدة. تسعة (9) آلاف طالب... وهنا لابدّ أن نقول ان المتباكين على دارفور لا يساعدون في شيء المدارس الى الآن... مدارسنا مشيّدة من القش.. والى الآن، عندي طلبة ناجحين وليس لهم أماكن دراسة لمواصلة تعليمهم (جامعة واحدة). حوار عبد الحميد الرياحي وفاطمة بن عبد الله الكراي