كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    جماهير الترجي : فرحتنا لن تكتمل إلاّ بهزم الأهلي ورفع اللقب    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    هيئة الأرصاد: هذه المنطقة مهدّدة ب ''صيف حارق''    تعاون مشترك مع بريطانيا    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    جيش الاحتلال يرتكب 4 مجازر جديدة في غزة    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنديل الثاني: الدكتور عادل خضر ل«الشروق»(3): نقد الجابري للفكر العربي قراءة تاريخيّة
نشر في الشروق يوم 03 - 08 - 2010

واسع المعرفة، بعيد الرؤية، عميق التحليل، وموضوعي الرأي. كتاباته الأدبية فكرية وموغلة في الاختصاص،دراسات جمالية نقدية تعتبر من المراجع الأكاديمية المهمة في الأدب العربي . عبر الحوار حاولت أن أتحدّث مع الدكتور عادل خضر قليلاً عن عادل خضر، لكن عندما بدأ يتحدث عن نفسه تعقد الشرح. نواصل الحوار حول مشروع الجابري، كتابة المقال، والجنون بمرجعيتين ثقافيتين مختلفتين بين الجاحظ وفوكو ..... وأشياء أخرى.
٭ ما رأيك بما نادى به محمد عابد الجابري في البحث عن فكر عربي معاصر، بعد أن قرأ وفكك بنية العقل العربي وتراكيبه ومفاهيمه وخطابه؟
مشروع الجابري طموح وينتمي إلى مجال المشاريع الكبرى، كمشاريع الطيب التيزيني، وحسين مروة، وأدونيس... التي تدرس الفكر العربي من بداياته إلى الأزمنة الحديثة دراسة تاريخية ظواهريّة بنيويّة، لكنّها مشاريع تظلّ محكومة بإيديولوجية صاحب المشروع، فمشروع الطيب التيزيني هو قراءة ماركسية للتّراث، وقراءة أدونيس رومنطيقية في جوهرها وإن ادّعى أنّها ظواهريّة، وقراءة الجابري تاريخيّة خاصة في مشروع قراءته للعقل العربي. اكتشف الجابري خاصّة في كتابيه تكوين وبنية العقل العربي أنّ لهذا العقل ثلاثة أنظمة معرفيّة، البيان والعرفان والبرهان. ويبدو تأثّره بمشروع ميشيل فوكو واضحا (الكلمات والأشياء) و(أركيولوجيا المعرفة). والمشكلة في مشروع الجابري أن فهمه لمتصوّر الإبيستيمي مختلف عن تصوّر فوكو، فالإبيستيمي هو النّظام المعرفي الذي يتحكم في نظام كلّ العلوم فهو نظام الأنظمة، وعندما يتغير هذا النّظام أو الإبستمي يتغيّر معه بالضّرورة الخطاب العلمي في شتى الاختصاصات. وبتغيّر الإبستمي تحدث القطيعة بين نظام معرفي سابق ونظام معرفي جديد. والمهمّ أنّه في كلّ مرحلة ثقافية، كان فوكو يصرّ على أن وجود نظام معرفي واحد يتحكم في نظام العلوم، لكن الجابري وجد ثلاثة أنظمة معرفيّة متصارعة ومتقاطعة أيضا، وهذا في الحقيقة من المفارقات الّتي جعلت فهمنا للنّظام المعرفي ولمفهوم الإبستمي متسرّعا ومنحرفا. والحقيقة أنّ الجابري لم يدرس النّظام المعرفي ولا الإبستمي بالمعنى الدّقيق الّذي ضبطه فوكو، وإنّما درس الأنظمة السيميائية الهرمونطيقية، (التأويلية) المتصارعة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. فقد اهتمّ الجابري، بنصوص هذه الثّقافة في جميع مجالاتها علوم اللّغة نحو بلاغة، وفقه وأصول الفقه، وعلم الكلام والتّفسير والتّصوّف... وتعمّق في طرائق تأويل هذه النّصوص وأنظمتها السيميائية الهرمونطيقية، فالنظام البياني على سبيل المثال يدرس علاقات اللفظ المختلفة بالمعنى، كلّما كان اللفظ قريباً كان مفهوماً، وكشف عن المعنى بوضوح، وينحجب المعنى تماماً إذا كان اللفظ غامضاً. فأعلى درجات الوضوح في القرآن هي الآيات المحكمات، وأعلى درجات الغموض هي الآيات المتشابهات... فالجابري في رأيي الشخصي لم يدرس أنظمة معرفيّة وإنّما الأنظمة السيميائية التأويلية الّتي سادت في الفكر العربيّ الإسلاميّ، أو هو درس الأنظمة السيميائية الهرمونطيقية وهو يعتقد أنه يدرس الأنظمة المعرفية.
٭ اهتماماتك تتّجه غالباً إلى ما يبدو هامشياً من الظواهر المهمة، في حين أن المواضيع المهمّشة أو المهملة غالبا ما تكون محورية وليست ثانوية، مثل النادرة في النظام البلاغي وحيوانية الجنون ... ؟
مساهماتي في مجال الأدب همّها الأساسي هو قلب الأسئلة وإعادة طرحها بطريقة مختلفة، مثلاً في كتاب « يحكى أن « كلّ المقالات كتبت بعد بحث طويل هو العمل السردي استغرق ثلاث سنوات من القراءة في مجال السّرديّات بمختلف اتّجاهاتها، وكنت إلى حدود سنة 1996 بنيوياً حتى النخاع في مجال التحليل القصصيّ، بمعنى أنني أدرس النص من الداخل لتحليل جميع مستوياته لبناء دلالته، والسؤال الذي تدور عليه هذه المباحث هو: كيف يصنع الشعر، والرواية، والقصة؟ السؤال يتعلق بالصناعة، بالفن، بالشعرية، هذا السؤال يتعلق بصفة خاصة بكيفية كتابة هذه الأنواع الأدبية، وما يجعل من القصة قصة، ومن الشعر شعراً، ومن الأدب أدباً، والمفاهيم البنيوية بصفة خاصة بجميع مدارسها تحاول أن تجيب عن هذا السؤال بأن تبين ما هو عام ويحيط بكل أنواع الكتابات، فالقصص بكل أصنافها وأنواعها ومدارسها، تخضع لقوانين عامّة يمكن أن ندرسها على نحو موضوعيّ أو علميّ بكشف أبنيتها المجرّدة وطرائق توليدها... والنتيجة واحدة، وهي أنّ التحليل البنيوي لا يظهر من هذه النصوص الشديدة الاختلاف إلا بنيتها العامّة أو خصائصها الكلّيّة. وتجربتي في التدريس كشفت لي أننا عندما نطبق منهجاً من المناهج السردية على أي نص مهما كان نوعه، تكون النتائج متماثلة دائما، لأنّ التحليل لا يعتني بالاختلافات الموجودة بين النصوص القصصية، أو الشعرية وإنّما يهتمّ بصحّة المنوال وصواب النّظريّة واستقامة المنهج، في البداية تكون النصوص مختلفة، قصة، ملحمة، مقطعا من رواية، لكن في المنتهى النتائج واحدة، وهذه النتائج جعلتني أتساءل السؤال: «لماذا كانت هذه النصوص مختلفة، ولماذا يجعلها التحليل متماثلة»؟ وقد تبين لنا بعد مراجعة منطلقاتنا أننا كنّا نطرح سؤالاً كان منذ البداية يحتاج إلى تعديل، فبدل أن نقول: «كيف تصنع القصص وتبتدع؟» وجب أن نعاضده بسؤال آخر فنقول: «لماذا تقص القصص وتسرد وتحكى وتكتب؟ «فسؤال «لماذا» يختلف عن سؤال «كيف؟» لأنه يبحث عن الفريد في كل قصة ويحاول أن يفسّر سبب الاختلافات الموجودة بين قصة وقصة، ورواية و رواية ومقامة ومقامة...، وهذا السؤال يقتضي طريقة أخرى في معالجة النصوص القصصية تعتمد على التأويل لا على التفسير، فالتفسير يبحث عن العام في كل خاص، كأن يبحث مثلاً في رواية « اللص والكلاب « عما يجعله نصاً سردياً روائيّا، أما سؤال لماذا ؟ فهو يطرق المشكلة بسؤال آخر هو: لماذا كانت رواية «اللص والكلاب» لا تشبه رواية « الشحاذ»؟ والإجابة عن هذا السؤال تقتضي من قارئ الرواية وناقدها أن يتسلح بمقاربات مختلفة، منها ما هو فلسفي، ومنها ما يدور في فلك التحليل النفسي، كل ذلك لبيان أن الأدب مهما كان سؤاله ينبني على قواعد لعب، لا على قوانين عامّة كلّيّة، وأنّ الهدف من دراسة الأدب ليس إنتاج معرفة علمية، وإنما هو في الأساس بحث عن المعنى بمتابعة تقلّباته المدهشة بحيث يصبح التّأويل متابعة لمعنى لا يتقرّر لأنّه في تحوّل مستمرّ، فأزمة النقد العربي المتأثر بالنظريات البنيوية، أنه نقد مستقيل لا يؤوّل النص ولا يشْرك القارئ في العملية التأويلية، ولا ينتج المعنى، ولا يبحث عنه، ولا يؤسس معقوليته، فأغلب ما ينشر الآن هو تمارين تطبيقية جوفاء لمناويل سردية تطبق على النصوص بطريقة آلية ميكانيكيّة خشبيّة، وهذا مضرّ بالأدب، لذلك حاولت في كتابي «يحكى أن» «أن أعتني بنصوص معظمها روائي، ومعظمها غير مشهور، لأبيّن بالتأويل طرافتها وما تثيره من قضايا أدبية لا يمكن اكتشافها إلا إذا كان القارئ متنوع الثقافة، يستطيع أن يقف في كل أثر على شيء، أو ظاهرة يعسر العثور عليها في نصوص أخرى. في «أوراق العائلة لمحمد البساطي» وهو نص في غاية البساطة الخادعة، يكتشف القارئ اليقظ أنّ هذه الرواية لا تبتعد كثيراً عن تراجيديا» الملك أوديب «وفي رواية» مريم الحكايا « لعلوية صبح، نكتشف أن القانون المحرك لعملية السرد بأكملها، هو ما يسمى في التحليل النفسي بالمتعة الأنثوية، وأن اللعبة في «اللص والكلاب» إنّما هي بحث عن الهوية، وطرائق بنائها... وهذه الأمور لا يمكن أن تكتشف بمناويل جاهزة، فالتأويل نوع من الاستكشاف لهذا الفريد الذي لا يمكن أن ندرسه بقوانين العام. في مقالة صناعة النادرة، حاولت أن أبين قواعد صناعة النادرة البلاغيّة، وهي قواعد محكومة ببلاغة معينة، هي بلاغة الهزل، وهي نقيض لبلاغة الجد. وبل هي نقض لكلّ الوسائل المستخدمة لإنتاج الكلام البليغ الفصيح، فتنقلب بلاغة الجدّ إلى ضدّها وهو بلاغة الهزل، لتنتج خطاباً مضحكاً من أشكاله النادرة، ويعني ذلك أنّي اعتنيت ببلاغة سلبية لم يعتن بها الدّرس البلاغيّ إلاّ عرضا، وهي بلاغة لم يكتب فيها بعد بحوث تشفي الغليل.
٭ ضمن جاحظيات كتبت عن «المستنبح والنابح»؟
يدخل هذا المقال «المستنبح والنّابح: من بيان الكلب إلى حيوانيّة الجنون» ضمن كتاب بعنوان «جاحظيات» وهو قيد التّأليف، ومعظم الدراسات فيه تعتني بكتاب الحيوان للجاحظ، ومشروع هذا الكتاب السّرّي هو البحث فيما سميته «البيان الآخر» فالبيان هو لفظ من الأضداد فهو يعني الظهور والقرب والوضوح، ويعني أيضا البعد والخفاء، اعتنى الأستاذ حمادي صمود في أطروحته، وعلى نحو منظّم ونسقيّ، بالوجه الأوّل من البيان «الوضوح» . أمّا مشروع هذا الكتاب «جاحظيات» فهو الاعتناء بالوجه الآخر، وهو البيان الذي لا يبين شيئاً ولا يكشف عن المعنى إلاّ بإخفائه وكبته أو التّعبير عنه بطرق غير مألوفة. في نطاق هذا المشروع، كتبت هذا المقال «المستنبح والنّابح»، الذي شاركنا به في ندوة ميشيل فوكو في القيروان، سنة 2004 في قسم الفلسفة بكلية الآداب في القيروان. الفكرة الأساسية هي أن نقدم قراءة متقاطعة بين الجنون الغربي الذي اعتنى فوكو بكتابة تاريخه في كتابه الشّهير «تاريخ الجنون»، والجنون العربي كما تراءى لنا من خلال قصتين أوردهما الجاحظ في كتاب الحيوان، ولا يجمع بينهما إلا النباح، فالجنون عند فوكو هو ذهاب العقل، أما عند الجاحظ فمن معانيه الاختفاء، ومنها الجنّ وهو كائن لا يرى، والجنين في رحم الأمّ، وجنّ جنون الليل، والمعنى الثاني هو فقدان الكلام والاستعاضة عنه ببيان الكلب، أو نباحه، فالمجنون هو الذي ينبح، يتكلم لغة غير بشرية، التقاطع بين فوكو والجاحظ يظهر في حيوانية الجنون التي استعملها فوكو ليبين أن الحيوانيّة هي قناع الجنون، وهذه العبارة هي التي جعلتني أقرأ قصتي الجاحظ، انطلاقاً من تصوّر حيوانية الجنون بوصفها قناعا للجنون. وإذا استغنينا عن الكثير من التّفاصيل فإنّ المهم في هذا المقال هو هذا « اللقاء بين تصورين : الجنون وقد تقاطع بين مرجعيتين ثقافيتين مختلفتين تاريخيّا ومتباعدتين جغرافيّا، ولعلّ هذا الضّرب من التّجريب لا تطيقه من أشكال الكتابة إلاّ المقالة، فهي في رأيي الفنّ الّذي يجرّب فيه الباحث بعض المشاريع كالجمع بين المفارقات الغريبة، لاكتشاف معقوليتها السرية، فكاتب المقالة بصفة عامة ينطلق من نظرية في الظاهر لا تفسير لها، لكن بالتأويل الأدبي يكشف ما فيها من معقولية وطرافة، وكتاب المقالة قلة قليلة في الوطن العربي, هناك كتابات قليلة في هذا المجال ولكنّها ثمينة ككتابات رجاء بن سلامة، فتحي بن سلامة، عبد الكبير الخطيبي ...
٭ هل فكرت في كتابة الرواية؟
الرواية هي طريقة في التّفكير بالسّرد عند الروائيين الكبار، وأنا إبداعي في المقالات .
٭ هل كتبت الشعر؟
كتبت الشعر وأنا في سن 17،كان شعراً رديئاً، ثم عدت لكتابة الشعر سنة 2003، وبعنف شديد سنة 2005، نصوصا قصيرة مكثّفة أعجبت بعض القرّاء ولكنّي أرفض بكلّ صرامة نشرها، لأنّي لست شاعرا.
٭ لماذا لا تنشر؟
وكأنّك تسأليني لماذا لا تتعرى أمام الناس؟
٭ لماذا؟
فلسفتي البقاء بعيداً عن الأعماق، ففي الأعماق لا توجد إلاّ الظلمات اللاّبشريّة، أنا إنسان أحبّ السّطح ولا يعني ذلك أنّي سطحيّ، أتحرك في فضاء السّطح، لا أحب أن أكتب عن الأعماق . أعمق ما فيّ هو الجلد، تحت الجلد لا تجد إلاّ العضلات والعظام، إذا زال الجلد أصبح شيئا آخر لا بشريّا. حتى الظواهر التي تبدو غريبة كالجنّ والملائكة والشّياطين هي من صنع البشر، كلّ ما يبدو مفارقا وغير بشري ينتجه الإنسان، ولعلّ ما ينتجه الأدب والفنّ عموما هو هذا اللاّبشريّ، ولكنّه لا يوجد في الأعماق شيء إلاّ هذا اللاّبشريّ، ولا يمكن أن نعي به إلاّ في السطح، أي إذا روّضه الفنّ والأدب. لست شاعرا لأنّي أخفقت في ترويض هذا اللاّبشريّ بالشّعر. ولكنّي أتحدّث عنه في المقالة وبالمقالة.
٭ بإعتبارك أشرفت على سلسلة أدبية، ما عدا استئناءات ما هو تفسيرك للحياة القصيرة للسلاسل رغم الاختيارات الجيدة؟
المال قوام الأعمال، الكتاب يحتاج إلى مال، السلسلة التي أشرفت عليها تخضع لهذه القاعدة، صاحب الدار قرّر التوقف عن النشر بسبب الماديات. والسّلسلة لا تدوم إلاّ إذا كان إصدارها منتظما ومتسلسلا.
٭ هل عندك مشروع حلم كبير ؟
في الأحلام الوهمية أحلم بطريقة غير واعية أن تصبح داري مكتبة مليئة بكتب لا تنتهي كالرّمل. من النّاحية الأكاديميّة، أحلم بإكمال أطروحتي بكشف جوانب أخرى من «الأدب عند العرب» كالأدب واللعب، والأدب والحرب، فالأدب لديه وجوه أخرى تنتظر منّا ومن غيرنا من الباحثين أن نستكشفها.
٭ ما علاقة الأدب بالحرب ؟
السّلم مفهوم حديث، الدول القديمة دول حرب، مقولة الحرب تجدها في الأدب، شعرت بذلك خلال الأطروحة لكن لم أتمكّن إلاّ من إثارة المشكليّة دون طرقها بالتّحليل اللاّئق. درست الأدب الحيواني ككليلة ودمنة، وهو يفتتح بحكاية حرب الإسكندر على ملك الهند وينتصر عليه بحيلة. الحيلة هي جزء من فنون الحرب، تخصّص لها في كتب فنّ الحرب بعض الفصول.
٭ أنتم من الجيل الرابع أو الخامس في الجامعة التونسية، مثل شكري مبخوت، عبد الواحد المكني، رجاء بن سلامة، ألفة يوسف، عدنان منصر، لطفي عيسى، منصف التايب وغيرهم، جيل مهم، أعطى إنتاجاً مهماً، واهتم بلغة عربية متجددة وكتابة من نوعية خاصة، ماذا أضاف هذا الجيل وما هو المشروع الذي حمله؟
يقدّر الجيل بثلاثين سنة في العادة، ولكن في الجامعة يمكن أن نقدّره بعشر سنوات لأنّ الطّالب إذا تخرّج والتحق ليدرّس بالجامعة سرعان ما يصبح زميلا لأستاذه. ولكن إذا قسنا الجيل بنوعيّة المعرفة الّتي يدرسها ويدرّسها وينقلها في بحوثه أو ينتجها فإنّ الأجيال في الجامعة التّونسيّة لا تتجاوز الثّلاثة، منها جيل المؤسّسين من الّذين درسوا في الجامعات الأوروبيّة، وفرنسا تحديدا، والجيل الثّاني هو الّذي تخرّج من الجامعة التّونسيّة وقدّم إنتاجا متأثّرا بالتّكوين الّذي تلقّاه من الجيل الأوّل، وجيل ثالث، تلقّى من الجيلين تكوينه الأكاديميّ، إلاّ أنّه يختلف في اهتماماته وأبحاثه عنهما اختلافا متفاوتا. الأسماء الّتي ذكرتها تنتمي فكريّا إلى الجيل الثّالث، وهو مختلف لأنّ المشهد الفكريّ العالميّ قد تغيّر بنسق حثيث، وهو جيل منفتح يتابع ما يجدّ في حقول المعرفة المتنوّعة كاللّسانيّات والتّاريخ والفلسفة والأدب والإنسانيات، ومن الطّبيعيّ أن تكون لغته وطريقة تفكيره مختلفة عن الجيلين السّابقين، فهذا هو منطق المؤسّسة الأكاديميّة كلّ جيل يضيف بقدر طموحه إلى الجديد والتّجديد. على أنّ الجديد لا يعرف إلاّ بالتّراكم وبالقطائع. لعلّ الأسماء الّتي ذكرتها هي جيل يضيف بالقطيعة، أي بإقصاء ما لم يعد حيّا في المجال المعرفيّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.