الغناء في مسرح روماني كبير مثل قصر الجم له نكهة خاصة.. وله طقوسه.. فيكفي بالمرء أن يتجول ببصره عبر أرجائه حتى يدرك أن المكان وحده يثير الرهبة والخشوع... فالتاريخ ليس سطورا دونها المؤرخون.. ولا بطاقات بريدية تباع على قارعة الطريق... ولا هو بأسطورة تناقلتها الأجيال غلب عليها الخيال... كما أن لا أحد يشك بأن الفنانة المتألقة أماني السويسي استطاعت بفضل موهبتها وما تملكه من حرفية في الأداء والحضور الركحي والصوت الحسن إلى جانب ذكائها واختياراتها الغنائية الموفقة والدقيقة أن تكون نجمة متلألأة بما تحمله هذه الصفة من معنى... ذلك أن أماني اتبعت منهجا سليما بعيدا عن الشوائب والسقوط في فخ البذاءة والانحلال الذي وقع فيه أغلب طالبات الأكاديمية فلم يكن من السهل على جماهير الجم أن ينسوا سهرة أماني التي طبعت في ذاكرتهم.. وليس سهلا على من تابع حفل أماني أن ما عاشه هو مجرد متعة وقتية تنتهي بانتهاء العرض حفل أماني السويسي عاد بالجميع إلى حكايات شهرزاد إلى ألف ليلة وليلة بكل ما فيها من حب وغزل وانتشاء، حلاوة الأشجان وصفاء الألحان.. غنت ست الحسن والبهاء فأطربت... غنت فأقنعت وبكت.. كيف لا والمكان استثنائي والجمهور هو الآخر استثنائي الذي حول قصر الجم إلى بالماريوم يعجز القلم عن وصفه.. انطلقت الرحلة باستقبال مميز لفنانة متميزة خلقا و أخلاقا حل ركبها بالجم كلها ثقة على التألق وإسعاد الناس الذين غصت بهم مدارج المسرح الروماني... فلم يبخلوا عنها لحظة بتشجيعهم المتواصل لها بالتصفيق والهتاف و«التحويت» والزغاريد... وأشياء أخرى نبراسها تلك المحبة الصادقة لنجمة «ستار أكاديمي» التي كانت وفية لمبادئها.. وفية لفنها.. مخلصة لأهلها ووطنها.. إخلاص ترجمه حفل الثاني من أوت في الجم حيث جعله في أسمى مراتب الكمال... عندما صعدت أماني السويسي على الركح.. اشرأبت كل الأعناق نحوها.. فهي لم تكن عادية، أماني كانت فنانة بمثل غزالة عربية في روحها التونسية الأصيلة بما وهبها به الله من جمال أخّاذ يسحر الألباب زادته أناقتها الأسطورية العجيبة التي أسكرت الساهرين وعطّرت أحلامهم بأريج الغناء الجميل... وقد امتزج حلاوة صوتها الموسيقي بلحن الحمام الشجي وهو يتمتم صلاة الحب ويرتل أنشودة الجمال فانساب في أعماق النفس كأنه نغمات هادئة تعزف ألحانا ملائكية رائعة لترقص على إيقاعاتها كل صبايا المدينة التاريخية. قدمت أماني أحلى ما لديها.. القديم والجديد... فأنعشت الجماهير بإبداعات فنية وطربية خفيفة تفوح عشقا ورومنسية.. كانت «وين» و«أنا مش ملاك»... بل كنت وستظلين ملاكا ميزته الطهر والنقاء... وكانت «سيد الناس» إلى جانب باقة أخرى من «طقطوقات» أماني اللطيفة وحين قدمت رائعتها.. «توحشتك»تصاعد الدخان من مختلف جنبات القصر الأثري في الفضاء الواسع حتى خيل للناظر وكأنه ثعبان مقدس يتلوى تحت الأضواء بل قل راقصة بارعة ترقص كما رقصت الفتيات وتثنين ووقد انتشت أجسادهن بأغاني أماني بعد أن ألهبتهن الأنغام التونسية الراقية والجميلة فيما كانت أنوار الشموع تسكب على الغزالة العربية وتنعكس على وجهها الملائكي فزادته فتنة وتألقا وحولته إلى موسيقى صامتة عزفت ألحانها على أوتار القلوب وكأنه إشراقة شمس في مولد الصباح... الكوكتيل التونسي كان متنوعا.. منمقا.. مختارا ليعطي قيمة أكبر لهذه الفنانة المبدعة محافظة بذلك على جميع مكونات الأغنية التونسية الأصيلة ولم تحاول البتة إدخال أي تغيير في مضمونها وروحها خاصة في مستوى التوزيع الذي بات شعار أغلب الفنانين لإخفاء عجزهم وإفلاسهم نقول هذا الكلام ونحن أول من تابع مختلف خطوات أماني واكتشفنا أنها فنانة «قد وقدود» وهي الصوت العربي الوحيد القادر على تعويض الراحلة ذكرى.. لخصوصيات لا تتوفر أبدا في غيرها من الفنانات... فكل شيء فيها جميل.. عروس قصر الجم أهدت الجماهير الذين استقبلوها بحفاوة وترحاب كبيرين.. أكرموها وكرموها واحتضنوها بكثير من الحب أغصانا فائحة من شجرة ألحان العمالقة أمثال وردة الجزائرية والدلوعة صباح وأميرة الطرب الجميل ليلى مراد.. أماني السويسي كانت بحق نجمة مهرجان الجم.