لم يقرصني الجوع في ذلك اليوم قرصه اللطيف الخفيف الذي اعتدت الشعور به في آخر الضّحى أو في آخر العشيّ ' فأسكته بما يقع تحت يدي من تافه المأكولات. بل كان جوع ذلك اليوم قاسيا كقطّ متوحّش دخل معدتي لا أدري من أين ' وأعمل مخالبه في جنباتها' يخمش يمينا ثم يسارا ' وأحيانا ينحشر في أنبوب الأمعاء فأسمعها تقرقر متألّمة ' تكاد تصرخ مستنجدة لطرد الضّيف الثّقيل. كنّا قد تجاوزنا منتصف النّهار' ومضت ساعتان على موعد غدائي اليومي' أما إفطار الصّباح فتنازلت عنه ممنّيا النّفس بكمّيّة صبر قد أستلّها من أعصابي أو من جسمي هذا النّحيل المتهالك . آلمني الجوع حتى كدت أجأر بالصّراخ طالبا النّجدة ' أو أرتمي أرضا فاقدا الوعي ' لعلّ من بقيت في قلبه رحمة من أهل الدّار يجرجرني إلى المطبخ فيلقمني بعض طعام ينقذ به نفسا بشرية على وشك الهلاك... فلما بلغ الأمر أقصى ما أحتمل غامرت بدخول الحرم الأقدس لوالدتي ' وهو المطبخ' ولم يكن مسموحا لأحد دخوله إلا بمحضرها. وشرعت بحركات عصبيّة أفتح الخزائن' وأسحب الدّواليب ' وأتفقّد سلّة الخبز ' ثمّ أعود إلى فتح الخزائن مرّة أخرى وهكذا ...فلا أعثر على ما يمكن وضعه تحت ضرس ' أو لوكه بلسان . كنّا في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي ' لا ثلاّجات في البيوت' وعلى كل عائلة أن تتدبّر تخزين فضل طعامها بوسائل مرتجلة ، فالبعض يعرضها للهواء في صررأو قفاف تعلّق بحبل الغسيل ' وآخرون يدسّونها تحت قصاع نحاسية في صحن الدّار' وغيرهم يكثرون فيها الملح لاستدامة الصّلاحية ' بلا خوف من ضغط الدّم الذي لم يكن من «موضات» ذلك العهد. سمعت أمّي ضجيجا في المطبخ فجاءت مسرعة متسائلة ' وإذا بي أعترضها عند الباب مستغيثا: ٭ جوعان يا أمّي' وسأموت حالا إن لم تسعفيني بأكل. ضربت صدرها مفزوعة ' وأسرعت إلى الباب توصده حتى لا يسمعنا أحد . ٭ خفّض صوتك... هل نسيت أنّنا في رمضان؟ ٭ أعلم أن رمضان دخل' وأعرف أنّ صيامه فرض على الكبار' وليس على الصّغار. ٭ وهل أنت صغير يا سيّدي؟ إنّك شابّ يافع ما شاء اللّه عليك' وتدرس في جامع الزّيتونة. ٭ أدرس في جامع الزّيتونة ، وصغير مع ذلك . ٭ لكنّك كبير إخوتك ' والأكثر تعلّما في أولاد الحومة ، فواجبك أن تكون لهم قدوة ومثلا . ٭ إنّك تعذّبينني وتعذّبينهم. أعطيني أكلا وإلاّ ذهبت أطلبه من الجيران. ٭ يا فضيحتي... اسمع. إذا أصررت على المعصية سأعطيك لمجة ' ولكن سأخبر الجميع بأنّك طمّاع « هروقي» أكول ' كسرت صيامك والنهار مضى أكثره ... وسترى الحفل الذي سيقام لك في الزّقاق . ٭ أعطيني أكلا لتسكين هذا الألم ببطني وسأخبر الصّغار بنفسي أنّ الصّيام ليس فرضا عليهم. ٭ ربّما ليس فرضا على من دون سنّ العاشرة ' أما أنت ففي «الأثناش» وتدرس مع الكبار...ألا تستحي من فعلتك ؟ ٭ البلوغ لا يحصل بالعدوى ولا بمعاشرة الكبار... له علامات وليس عندي شيء منها. ٭ ضمّ شفتيك يا قليل الحياء...أهذا كلام تقوله لأمّك ؟ ٭ علّمني مشايخي أن لا حياء في الدّين. ٭ لا يا ولدي...لا بدّ من الحياء. نحن بعثناك لتتعلّم لا ليطول لسانك وتسمح لنفسك بقول ما تريد. ٭ لو سمعت ما يعلّمنا المشايخ لقلت إنه أكثر من قلّة الحياء. ٭ ظننت أنهم يلقّنونكم العلم ويفقّهونكم في الدّين. هذا ما يقوله أبوك. ٭ نعم... ومن فقه الدّين علّمونا نواقض الوضوء' ودواعي الاغتسال عند الرّجل والمرأة' وموانع الصّوم' وموجبات الكفّارة ' ومن بين ما علّمونا أيضا علامات البلوغ عند الفتى والفتاة...وأشياء أخرى. أخذت والدتي – رحمها اللّه – تهرب بوجهها من ركن إلى ركن 'تسحب دولابا وتغلقه' تفتح خزانة وتكاد تغيب وسطها 'ثمّ تعود إلى الدّولاب الأوّل' متظاهرة بعدم سماع ما أقول . ثمّ التفتت نحوي فجأة ' وبحركة عصبيّة قرّبت من فمي رغيف خبز فوقه قطعة طاجين جبن مما أكلنا أغلبه بالأمس. فهمت من حركتها أنها ودّت لو تلقمني اللّمجة لتسدّ فمي. وكانت بي نفس رغبتها في أن ينسدّ حلقي بما ناولتني ' حتى ولو اختنقت' حتى ولو لم أقل كل ما أريد ' حتى ولو فضحت أمري لأطفال الحيّ وألّبتهم لاستقبالي بالطّبل والمزمار. خرجت صافقة باب المطبخ خلفها دون أن تريني ما طرأ على ملامح وجهها. هل كانت حانقة من جرأتي ' وحديثي إليها بما لم تعتد سماعه من الكبار؟ أم كانت فخورة بابنها الذي أصبح شيخا صغيرا يفرّق بين الحلال والحرام ' ويدرك كثيرا ممّا لا يعلّمه الكهول لأطفالهم؟