في حركة فريدة غير مسبوقة أبدى قضاة المحكمة الجنائية الدولية اهتماما خاصا بحث مجلس الأمن على الضغط على الدول الأطراف في نظام روما للقبض على الرئيس البشير، وبذلك لم يعد المدعي العام لهذه المحكمة هو المتحمس الوحيد لإقرار العدالة الجريحة في هذه المحكمة. فعندما زار الرئيس البشير التشاد وكينيا مؤخراً في 27 أوت 2010 بدأت واشنطن تحث التشاد على القبض على البشير، فلما رفضت التشاد ذلك طالبتها واشنطن بتفسير لموقفها لالتزامها في اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية. ومعلوم أن الولاياتالمتحدة تكن العداء لهذه المحكمة لكنها لاتتورع عن استغلالها في مخططها لتفتيت السودان، ولا نفهم لماذا تنصب واشنطن نفسها مدافعاً عن أحكام المحكمة وهي لاتحترم مقدسا في القانون الدولي وتسببت في ضياع هيبة هذا القانون بانحيازها الأعمى لإسرائيل، وجرائمها التي لا تحصى، وتسترها على الجرائم الإسرائيلية، وسجلها المعروف في العراق وغوانتانامو وأفغانستان كان حرياً بها أن تتوارى خجلاً، كما أن تصديها للبشير ليس قطعاً عطفاً على ضحايا دارفور الذين تتحمل هي المسؤولية الكاملة عنهم بحكم دعمها للتمرد في جنوب السودان ودارفور وغيرها، وعندما زار البشير نيروبي لحضور حفل توقيع الدستور الجديد انضم الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن في إدانة موقف كينيا ولكن الجديد هو موقف قضاة المحكمة نفسها. قد أفهم أن المحكمة في مجملها وليس من خلال قضائها حريصة على انفاذ أحكامها خاصة الحكم الذي قضى باتهام الرئيس البشير بارتكاب جرائم مختلفة في دارفور. ويعلم قضاة المحكمة قطعاً أن الحملة ضد الرئيس البشير ليس هدفها العدالة الجنائية لصالح الضحايا، وإنما الهدف هو تجنيد المحكمة للضغط على البشير في إطار المشروع الأمريكي حتى لايقف عقبة في طريق انفصال الجنوب، ثم يليه دارفور والشرق على النحو الذي أكده ياسر عرمان نائب رئيس الجبهة الشعبية لتحرير السودان من المسلمين والعرب في ندوته بالقاهرة يوم 27 أوت الماضي وتأكيد الحركة على علاقتها العضوية بمتمردي دارفور وعلاقتها بإسرائيل. ولذلك فإن انخراط القضاة في هذه المؤامرة السياسية باسم العدالة الجنائية ينال من أهليتهم لتولي هذا المنصب إلا إذا كان اختيار القضاة قد تم لاعتبارات سياسية. ولماذا لم يتحمس القضاة أيضاً لجلب قادة إسرائيل الذين أدانهم تقرير غولد ستون، ولماذا لا يناشدون مجلس الأمن أيضاً للاقتصاص من الجرائم الإسرائيلية اليومية وارتكابها يومياَ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والابادة الجماعية خاصة بعد أن ألحت على المحكمة منظمات دولية انسانية بملفات كاملة . وإذا كانت المحكمة قد بررت انحيازها لإسرائيل بأن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما، فإن السودان هو الآخر ليس طرفاً. أما التذرع بأن قضية دارفور قد حولت من جانب مجلس الأمن، فالمحكمة أول من يدرك – إذا كان أعضاؤها قد درسوا أي قانون – العوار القانوني في قرار الإحالة في إطار تفتيت السودان، وكان أولى بالمحكمة إذا كانت حقاً محكمة قانون تحترم مهمتها أن تفضح ما ورد في قرار إحالة السودان من إمضاء على بياض على اعفاء الأمريكيين من الخضوع لولاياتها ولذلك فهو قرار طعين ولا يمكن الاعتداد بسلامته لأداء وظيفة الإحالة. كذلك رفض المدعي العام التحقيق في جرائم الجيش الأمريكي في العراق، وهي جرائم التعذيب، بخلاف جرائم العدوان وجرائم الاحتلال، وكلها مما تختص المحكمة بالتحقيق فيه، ولكن المدعي العام تهرب بنفس الحجة البالية وهي أن الولاياتالمتحدة والعراق ليستا طرفين في نظام روما، وبذلك ينتهك نظام روما نفسه بالتحقيق في جرائم تقع في دولة ليست طرفاً وليست ملزمة بهذا النظام، بل إنه انتهك التزامه بالتحقيق بموجب المادة 15 من نفس النظام. صحيح أن صياغة المادة تجعل له الخيار والقرار ولكن عندما يكون الموقف صارخاً مثل العراق وفلسطين فهو موقف معيب. لكل ذلك فإن حملة أوروبا والولاياتالمتحدة باسم العدالة الدولية ضد البشير ولصالح التمرد جريمة قانونية وسياسية جديدة تهدف إلى تفتيت السودان، ولهذا السبب كانت التشاد على حق عندما تجاهلت الضغط الأمريكي وكانت كينيا على حق عندما غلبت قرار الاتحاد الأفريقي على قرار سياسي مشبوه، وتعلم الدول الإفريقية أن هذه المحكمة قد نشأت أصلاً لتمكن الاستعمار الجديد من إرهابها وتطويعها وليس لها علاقة حقيقية بالعدالة المنشودة، ولذلك فإن بيان الاتحاد الإفريقي كان موقفا حازما في تغليب الموقف الإفريقي الداعم للسودان على الموقف غير المسؤول من جانب هذه المحكمة. وأرجو أن تتماسك إفريقيا أيضاً للمحافظة على وحدة السودان والدفاع عن أهم مبادئ القانون الدولي الإفريقي وهو مبدأ قدسية الحدود والذي حفظ إفريقيا ووحدة دولها حتى الآن. صحيح أن جنوب السودان ينفصل باستفتاء وقّعت على إجرائه حكومة الخرطوم، وصحيح أيضاً أن الانفصال يتم بموافقة الخرطوم، ولكنه لا يتم برضاها لأنها قهرت على الخيار في نيفاشا بين استمرار الحرب والجنوب أو القبول بالمبدإ ولم تكن تتصور أن الانفصال هو الخيار الأرجح اعتقادا بأن اتفاقية الشراكة سوف تكفل تعزيز الوحدة وليست الدافع الأساسي لإنشاء الجبهة الشعبية. لكل ذلك لابد للدول الإفريقية أن تعتد بالإرادة الصحيحة للحكومة السودانية، وألا تعترف بأي دولة جديدة تولد بهذا الاستفتاء. والدليل على الطابع النفعي السياسي لهذا الاستفتاء أن الجبهة الشعبية تؤكد أن الوحدة ممكنة لكن بثمن أعلى، أي امتيازات تحصلها في النهاية قيادات الجبهة دون أن يظهر أثرها على شعب الجنوب، أي رشوة قادة الجنوب مقابل الإبقاء على الوحدة.