(1) يقف المتابع طوال شهر رمضان للإنتاج الدرامي التلفزيوني, سواء على القنوات التونسية أو العربية, على ضحالة المضامين ورتابة المشاهد المكرورة والمستهلكة رغم تغير الديكورات واللهجات العربية. خاصة وأن الدراما التلفزيونية المنتجة عربيا قد باتت منذ التحولات العميقة التي شهدتها مجتمعاتنا منذ حرب الخليج الثانية تشكل مدوّنة ومرآة وموضوعات تعكس بأشكال متفاوتة الدلالة على ما يعتمل من تصورات وتمثلات فكرية وذهنية وذوقية لدى المتحكمين في الإقتصاد الرمزي داخل هذه المجتمعات , مما يجعل من فضاء هذا الإنتاج الدرامي المعروض للاستهلاك بالأساس ذخيرة وجدانية مؤثرة يمكن أن تكون بحكم تأثيرها الجماهيري الفعال أداة لبلورة دوافع نهضة الأمة أو انحطاطها. (2) وفي الوقت الذي تزداد فيه سطوة المرئي على المكتوب في الزمن الاستهلاكي احتكاما للعلاقة التواصلية الجديدة التي يعيشها العالم المنخرط في مدار «الفيديو سفار» Vidéo- sphère على حد تعبير ريجيس دوبري Régis Debray وما يعتري هذا المدار من رهانات تتجاوز الرمزي لتتحكم في المادي بناء على إستراتيجيات التواصل والإقناع والإغراء والتوجيه الايديولوجي المقنع , وفي الزمن الذي بدأت تخاض فيه الحروب المصيرية الجديدة وتحسم بالخدعة التقليدية ذاتها بالحصان الطروادي ذاته , حصان الصورة في حياتها ومماتها وبعثها, وفي السياق الذي تكون فيه الحرب حربا وقائية بالأساس ومن خلال ترسانة الصور ذاتها, تتجمع الجماهير العربية في ذروة الاستهلاك بوجهيه المادي والمعنوي على ما يشبه مزبلة في قالب مأدبة سمعية بصرية تشكل فيها ما نسميها بالدراما التلفزيونية أطباقها الرئيسية, وتتجشأ هذه الجماهير تخمة الشيء المكرور, والسطحي والترفيهي العابر مسلمة ومستسلمة لهذا الوهم الذي يعيد الاحتفال بالأزمات والمركبات والتابوهات فيكرّسها , ويبشر بالبطل العنتري الذكوري, ويؤبّد الواقع المتردّي بوصفه القدر الذي لا يتزحزح, ويكرّس ذلك الانحطاط الجمالي المقترف باسم الفن, ويحاصر وجدان الأمة كلها في مكان مغلق اسمه «الحارة», ويختزل قدوتها في فتوة تحتفي بشواربها وبصولجان النرجيلة كآخر تحصين للذكورة المهدّدة. (3) وبالمقابل أدركت شعوب أخرى ناهضة, أهمية الصورة والتحكم فيها , بل أدركت وبشكل صريح تكتيك الإقتصاد السياسي لدلالة الصورة في كامل تجلياتها. ومن المفارقات أن ثقافة هذه الشعوب لا تنتمي بالضرورة إلى المدار الغربي وإن كانت تصنف هذه الثقافة ضمن المجال الهندو أوروبي, بل هي متأصلة في تربتها الشرقية بكل ما تتميز به ثقافة الشرق وتحديدا الشرق الإسلامي من الإعتماد على المرجعية الدينية والروحية وما ينتج عن ذلك من خصوصية فكرية ووجدانية وما يحيط بذلك أيضا من تناقضات وإنقطاعات وحرج في علاقتها بالحداثة والمعاصرة , أي بما يعتري ذلك من «بتر للروح» في مواجهتها للواقع على حد تعبير داريوش شايكًان Daryush Shayegan الفيلسوف الإيراني. و البتر في الروح هذا في غاية الأهمية في تاريخ الأمم لأنه ليس مجرد جرح نرجسي بقدر ما هو القدرة على العبور من الملحمة إلى التاريخ. (4) ولأننا في هذا السياق نتحدث عن الإنتاج الدرامي التلفزيوني بوصفه جزءا من إنتاج الصورة , ولأن بعض القنوات العربية وعلى رأسها القنوات التونسية بثت طوال شهر رمضان 2010 نماذج من الدراما الإيرانية ( عيسى روح الله , إخراج نادر طالب زادة مريم المقدسة, إخراج شهريار بحراني نبي الله يوسف, إخراج فرج شلحسور...) التي توضع فيما يسميه البعض المسلسلات القرآنية الإيرانية, فإن التقنية العالية والجهد التأليفي الضخم المبذول على مستوى الكتابة الدرامية والتصوير السينمائي, واحترام ذكاء المشاهد من خلال الدقة الصارمة في الأداء والتدبير التاريخي والأركيولوجي والخلفية الفكرية لهذا الإنتاج الدرامي كشفت للمشاهد العربي على بؤس الإنتاجات الدرامية حتى على مستوى المسلسلات التاريخية والدينية ... ولا غرابة أن يكون ذلك نابع من أمة وهي الأمة الإيرانية الفارسية التي أدركت حجم ميراثها الثقافي وحرصت على تقديمه بالروح المصيرية لأمة ناهضة ولا خيار لها إلا النهوض من الممكن الملحمي إلى الوجود الفعلي في التاريخ. (5) وأمام هذا الدرس الإيراني الفني والجمالي, وبقطع النظر عن الإسقاطات الإيديولوجية المتعلقة بالقراءات استنادا للخلفية المذهبية أو العقائدية أو السياسية وهذا أمر بديهي إذا ما تمعنا في رهانات الصورة المتعددة , فأننا نعتقد أن المقترح الدرامي الإيراني كان بمثابة الحصان الطروادي الذي يقتحم «حارتنا» و«حومتنا» المغلقة, بل هو بمثابة الدرس البليغ في الإقتصاد السياسي في الصورة وقد سبق للإيرانيين أن أعطوه بشكل متألق في مجال السينما وعلى المستوى العالمي, ناهيك عن الفنون التشكيلية والمسرح وكل ما يمت للصورة بعلاقة. ولأن الدرس الجمالي غير منقطع حسب رأينا عن السياسي والإجتماعي الذي تحوّل حجة على ضحالة منتوجنا للصورة, فإن ردود الفعل تجاه هذه المقترح الإيراني عبرت بشكل مخجل ومبتذل على قياس الابتذال والسطحية التي تعيشها الثقافة الاستهلاكية في عالمنا العربي ذهبت إلى حدود الدعوة الصريحة إلى إيقاف بث هذه الأعمال والالتجاء للمراجع الدينية وإثارة حرب الصور على إيقاع قروسطي في تجسيد المقدس والتي حسمها الغرب المسيحي منذ القرن الثامن ميلادي في مجمع نيقيا الثاني Concile de Nicée II. ولا غرابة أن ردة الفعل السلبية هذه على الدرس الجمالي الإيراني جاءت مستشعرة في باطنها فزع من يكمن وراء تمويل هذا الإنتاج الدرامي في القنوات الفضائية العربية ومن يتحكم في إنتاج القيم الأخلاقية السائدة في هذه الثقافة العربية المحكومة بقانون السوق وبمبدإ «ليس بالإمكان الإتيان بأحسن مما كان».