الحديث عن الامام أبي حنيفة يتجه بالضرورة إلى مدرسة أهل الرأي وإلقاء الضوء على هذه المدرسة وعلى الإمام أبي حنيفة الذين اشتهر بالتوسع في الرأي، وهو في ذلك كان متبعا للإمام عمر بن الخطاب، فإن الامام أبا حنيفة قد تأثر برأي الامام عمر بن الخطاب ونهج نهجه في التفكير والاستنباط بالرأي حيث لا نص، حتى إنه خصص عموم الآيات وقيد مطلقها، وبين ما استغلق على غيره بالتعليل وتخريج الاحكام، واجتهد في مواقفه المصلحة في أكثر من موضع. هذه المدرسة ترى ان احكام الشريعة معللة ومعقولة المعنى، فكانوا يبحثون عن العلل والغايات التي لأجلها شرعت الأحكام، ويجعلون الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وربما ردوا بعض أحاديث لمخالفتها لأصول الشريعة ولاسيما إذا عارضتها أحاديث أخرى. خلاف وقد اشتد الخلاف بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث، ثم استقر الأمر على اعتبار الرأي طريقة فقهية صحيحة بحدودها وأصولها الشرعية، تلك الحدود والأصول التي تبتعد بالرأي عن معنى القول بالهوى والتشهي المجرد عن الدليل. وصار الامام أبو حنيفة من بعد امام مدرسة الرأي في الكوفة وهي مدرسة لها قواعدها وأصولها التي وضعها الامام بنفسه وكون منها مجموعة من الآراء في الفقه دونها تلاميذه وأطلق عليها اصطلاحا مذهب أبي حنيفة. وقد امتدت حياة أبي حنيفة بين سنة 80 وسنة 150 هجرية أي 70 عاما نشر فيها مذهبه وتبعه أبو يوسف الذي كان قاضي القضاة في عصر الدولة العباسية. وكان الامام أبو حنيفة تاجرا يبيع ثياب الخز في الكوفة، وقد عرف بصدق المعاملة وكان حسن الوجه والمجلس، سخيا، ورعا، ثقة لا يحدث إلا بما يحفظ، سلم له حسن الاعتبار، وتدقيق النظر والقياس وجودة الفقه والامامة فيه. قال ابن المبارك: افقه الناس أبو حنيفة. ما رأيت في الفقه مثله. وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: لا تكذب. واللهّ ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال النضر بن شميل: كان الناس نياما عن الفقه حتى ايقظهم أبو حنيفة بما تفقهه وبينه. أهل الظاهر وقد طعن أهل الظاهر على مذهب أبي حنيفة وقالوا: إنه فلسفة فارسية صيرت الفقه الذي هو شريعة إلى عمل وضعي. وقالوا: إنه لا يجوز التعويل إلا على النصوص. فأما النظر إلى المعاني والعلل فإنه يوجب الاختلاف والاضطراب، وهو فوق ذلك تشريع بالهوى والرأي. وهذا في الواقع انكار لأصل حجية القياس وطعن في صحة العمل به، وهذا شيء قد فرغ منه الفقهاء وأهل الأصول، واستقروا على أن العمل بالقياس لم ينفرد به أبو حنيفة من بين الأئمة. وإنما هو في ذلك سلك مسلك الأئمة والمجتهدين في استنباطهم، فقد روي عنه أنه قال: اني آخذ بكتاب اللّه إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب اللّه ولا سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى ابراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، وعد رجالا قد اجتهدوا، فلي ان اجتهد كما اجتهدوا. ولهذا فقد اتسم فقه الامام أبي حنيفة بالحرص على احترام إرادة الانسان في تصرفاته ما دام عاقلا، فلا يسمح لأحد بأن يتدخل في تصرفات الانسان العاقل الخاصة به. فليس للجماعة ولا لولي الأمر الذي يمثلها أن يتدخل في شؤون الافراد الخاصة، مادام الشخص لم ينتهك حرمة أمر ديني، فإن انتهك حرمة أمر ديني حينئذ تكون الحسبة الدينية موجبة للتدخل لحفظ الدين والنظام العام، لا لحمل الشخص على أن يعيش في حياته الخاصة على نظام معين أو يدبر ماله بتدبير خاص. وإننا نجد ان النظم القديمة والحديثة تنقسم قسمين في اصلاح الناس. الأول: اتجاه تغلبت فيه النزعة الجماعية، إذ تكون تصرفات الشخص في كل ما يتصل بالجماعة عن قرب أو تحت اشراف الدولة وهذا نراه مطبقا الآن في بعض النظم القائمة ورأيناه في نظم أخرى انتهت. والنظام الثاني: نظام تنمية الارادة الانسانية وتوجيهها بوسائل التهذيب والتوجيه نحو الخير، ثم ترك حبلها على غاربها من غير رقابة، إلا أنها قيدتها بأمور خلقية ودينية تعصمها من الشرور، وتبعدها عن الفساد.