قد يكون التغني بأهزوجة من أهازيج التراث صهوة يسهل امتطاؤها لتتحقق مآرب شتى وساحتنا الفنية والثقافية أصبحت تزخر وتعج بالجيد النادر والسيئ الكثير وبمن أحسنوا الامتطاء وبمن أساؤوا... وكثيرا منهم لا يكلّف نفسه عناء الركوب ومتعه... لكن أن تسعى الى موارد التراث وتفتح ذاكرتها الحية فصاحة وإحساسا وأمانة وتتوخى التمحيص والتدقيق في البلوغ والتبليغ عسى ان تشيد للذاكرة موضعا ساطعا تعود اليه حين تغيب ويؤرقها الوهن وينهل من صفائها من أراد الارتواء، فهذا ليس بالامر الهين ووعرة مسالكه، لكن الشاب مؤلف كتاب «خمسون أهزوجة من عمق الذاكرة» تجشم كل هذه الصعاب وتوغل في ذاكرة جيلين من أهالي مدينة السند بقفصة يبحث بين شعابها في رسوم إرث من موروثاتها العديدة، ليخص الاهازيج الشعبية ومواويل أفراح وأحزان وعشق المنطقة في فترة ما قبل الاستعمار ومع بداية الاستقلال بعمل كان للوضوح فيه والتخصيص سمة بارزة ولم يتطاول الكاتب على مساحة لا تعنيه ولم يرتفع ادعاء وغرورا ليحيل الى الاعتقاد بأن ما قدّمه يندرج ضمن علم الفلكلور والأنثربولوجيا والاجتماع بل وقف عند احدى بذراته يستجمع ويؤثث من ثمراتها صفحة من صفحات موروث منطقة من ربوع هذا الوطن وهي مدينة السند لينقل الينا بالتوظيب أربع ملاحم، ملحمة التغني بترحال وحياة المنطقة وأهاليها. ملحمة العشق والعشاق، ملحمة الافراح والمناسبات، ملحمة أهازيج النسوة وهي في الواقع أحداث وهواجس ووقائع ومظاهر تداخلت تفاعلاتها وأسبابها في أشكال مختلفة كان يمكن تدوينها كتابة وعبر التاريخ لكن كان نقلها شدوا أكثر عمقا ووقعا في النفوس وحفظا في الذاكرة وكانت مرجعا تاريخيا وإن جزئيا لحدث أو واقعة ما..بما يقتضي الصدق والأمانة لمن أسس للتغني وما في ذلك من تمسك بمبادئ الحياء والوقار وعزة النفس... لم يكلّف فيها صاحبها، ناظمها أو قائلها نفسه معاجم اللغة أو كتب التاريخ والآداب، بل حسا جماعيا ونمطا جماعيا قوامه اللهجة والعادات والتقاليد... وما أروع الاعتزاز بالنفس يتجلى في احدى مقاطع احدى الأهازيج» لا نُوكل خُبرة بالدّينْ = (أي بالتداين) ولا نلبس جرْدْ بايدْ خيوْتي في ثلاثين (إخوتي) ولاد عمّي بْزايد كذلك في التعبير عن التضامن والتآزر: أخالي مثّلتكْ شجره لا هبّت لرياحْ تتكى الورقه على الورقه وتداوي لجْراحْ وصور عديدة من خمسين أهزوجة أحيا فيها الكاتب ذاكرة الماضي وحفظ لبذرة من التراث مكانا من شأنه ان يكون مرجعا لمن سعى وأراد، واعتمد في الطرح البساطة والصدق ومحترزا أن يكون لبعض الأهازيج ان تداخلت نسبتها لمنطقة دون موطنها الاصلي وذاك ما كان يميز حياة الاهالي من ترحال وتنقل من جهة الى أخرى. ويكفي من عذوبة هذا العمل انه كان قطرة حلوة من كأس مدينة قفصة لتؤسس وتؤثث لضرورة البحث عن اتراع كؤوس كل مدينة ونوثق ماض رائع.