لم تكن ضغوط الدراسة والامتحانات والتفكير في النجاح أشد بأسا على نفوس المجازين من وضعهم بعد الحصول على شهائدهم العليا حيث تصبح البطالة الهاجس الأول لقسم هام منهم... فبعد سنوات من الكد والتعب والحرمان من النوم أحيانا.. والأحلام يجدون أنفسهم في صراع حاد مع واقعهم... ودوامة البحث عن عمل يناسب مؤهلاتهم... فيجتازون دورات «الكاباس» الواحدة تلو الأخرى... ويرتادون مكاتب التشغيل بشكل يومي بحثا عن فرصة عمل... فيبتسم الحظ أحيانا للبعض إلا أنه يدير ظهره عنوة للبعض الآخر.. فيتقبلون الأمر الواقع... ويتخلون عن حلمهم الأصلي ويشرعون في البحث عن بديل ولو كان بعيدا عن مؤهلاتهم في حين يتشبث الكثيرون بحلمهم فتراهم يلازمون المقاهي منتظرين دورات جديدة لمناظرات مختلفة... أو ردّا عن مطالب عمل التي كانوا تقدموا بها.. قد تحقق رغباتهم وقد تصيبهم بالإحباط! أصبح شبه مألوف رؤية بعض حاملي الشهائد العليا يعملون في المقاهي وحضائر البناء... والأسواق... والمحلات التجارية ومعامل الخياطة. وحتى حراسة المؤسسات... وفي مختلف الأعمال الأخرى، المشابهة التي قد لا توفر لهم سوى مصاريفهم اليومية أو دونها إذا كان هؤلاء من مدمني شرب السجائر «المستوردة» واللاهثين وراء الفتيات.. والسهرات في المدن السياحية... وبالتالي لا تجنبهم العيش عالة على عائلاتهم... ورغم التعب والمجهود البدني الكبير الذي يعانونه... ورغم نظرات الإدانة والامتعاض التي يرمقهم بها البعض من زملائهم المتشبثين بالبحث عن وظيفة محترمة فإنهم يزدادون إصرارا على الكفاح ومواجهة مصاعب الحياة بكل ما أوتوا من قوة... أيمن وهو شاب فاق عمره ال35 سنة حاصل على شهادة الأستاذية في العربية رفض الإدلاء بهويته بدافع الخجل من مهنته التي اتخذها بديلا بعد أن صدت أمامه جميع الأبواب، ابن الوطن القبلي هذا يعمل بإحدى رياض الأطفال يقدم الدروس ويهتم بالأطفال بأجر شهري لا يفوق المائة والثمانين دينارا يروي تجربته قائلا... اجتزت مناظرة الكاباس أربع مرات ثم قررت أن أقاطعها بعد أن فقدت الأمل كليا في النجاح وأصبت بإحباط شديد... وقد وجدت فرصة العمل هذه لدى عائلة صديق لي.. وهي الفرصة الوحيدة التي توفرت لي بعد تخرجي فلم أفوتها رغم نظرات الاستغراب التي أراها في وجوه الناس... فهل أموت جوعا وأظل أنتظر وظيفة قد لا أحصل عليها أيضا.. الدنيا قسمة ونصيب.. وارضى بالقليل حتى يأتي الله بالكثير... في النهاية أقول الحمد لله.. المهم عمل شريف... كشك دخان و... وحيد... شاب من إحدى المدن الساحلية حاصل على شهادة الأستاذية في التاريخ لكن لم يسعفه الحظ في الحصول على شغل اجتاز هو الآخر عدة دورات من الكاباس لكن دون جدوى فقرر أن يتحدى وضعه وفتح كشكا لبيع السجائر والجرائد... يقول وحيد أو عبد الواحد كما يناديه أقرانه عملت في حضائر البناء وفي مختلف المهن البسيطة.. إلى أن استقر بي الحال في هذه «البراكة» التي تدر عليّ المال الكثير.. وساهمت في إنقاذي من دوامة البطالة وأخرجتني من دائرة الأحلام والأوهام.. التي كنت غارقا في يمّها... وبفضل هذه البراكة «تزوجت وأنجبت» لكن ومهما تجمعت لي أموال الدنيا كلها فإن الوظيفة تبقى الأهم ومن خلالها أشعر أن سنوات الدراسة التي أمضيتها بين أسوار الجامعة لم تذهب سدى وآتت أكلها.. هناك دافع معنوي أكثر منه مادي... وتستمر الحياة بحلوها ومرّها. بائع فريب تحولت حياة الشاب محمد صالح إلى جحيم بعد حصوله على شهادة الأستاذية في الآداب الفرنسية منذ خمس سنوات لم يكن يدري أن أعوام الكد والكفاح والسهر المضني ستنتهي به إلى مجرد بائع للفريب في دكان متواضع وبحي أغلب سكانه من ذوي الدخل المحدود جدا.. يقول ابن القيروان لم يكن من حل أمامي سوى الرضى بالواقع والبحث عن بديل مؤقت لأحلامي يمكنني على الأقل من توفير مصروفي اليومي فليس هناك أسوأ من الإحساس بالفراغ والبطالة ولا أشد على أنفسنا من اليأس والإحباط.. أنا مرتاح نسبيا في هذه المهنة فالبيع والشراء يعلمك الكثير.. وقد تأتي الفرصة من حيث لا أعلم خاصة إذا حاول الواحد منا وسعى جاهدا موكلا أمره إلى الله... فحتما ستبتسم الدنيا في وجهي وبقية زملائي، الحمد لله أن الدولة لم تدّخر جهدا في البحث عن سبل لإنقاذ أصحاب الشهائد العليا.. فكل شيء له أوان... والمكتوب ع الجبين لازم تشوفو العين، ثم هناك أمر في غاية الأهمية وهو أن المتقاعدين كانوا سببا في حرمان العشرات من المجازين إذ لم تكفهم رواتبهم فانخرطوا في أعمال إضافية وفوق سنهم.. وأصبحنا نرى عديد المؤسسات تشغل هؤلاء هروبا من الاستخلاصات والضمانات التي يتسنى القيام بها مع المنتدبين الجدد! حبر على ورق... أو الحلم الغائب مراد الرزقي طالب متفوق تحصل على الأستاذية في الانقليزية بملاحظة حسن جدا... لكن لا الشهادة... ولا الامتياز نفعاه شيئا إذ وصل به الأمر إلى تخفيض سقف مطامحه وقبول العمل كمعلم بمدرسة وليس أستاذ انقليزية على حد تعبيره... ولكن ما كل ما يمتناه المرء يدركه حتى ولو كانت مطامحه متواضعة يقول مراد وهو في قمة انشراحه وسعادته رغم... ورغم... لم أوفق في مناظرة الكاباس وظللت مدة لا بأس بها رحالة انتقل بين الأعمال الفلاحية وحضائر البناء... وكان ذاك هو الحل الوحيد عندي وأنه قدري.. وقد حز في نفسي كثيرا قبل الظفر بهذه الوظيفة هو أني سهرت الليالي منكبّا على دروسي وحالما بمستقبل مشرق دون أن يجول بخاطري أنني سأعيش معاناة حقيقية مليئة باليأس والمرارة... خاصة عندما يرمقني جيراني وأقاربي بنظرات كلها شفقة وسخرية في أكثر الأحيان... إلى أن منّ الله عليّ بهذا الكرم.. فوالدتي لا يفارق الدعاء شفتيها بالليل والنهار حتى أحصل على شغل أيا كان نوعه فالمهم مع «الحاكم» والشهرية «مسمار في حيط»... «أم قيس» شابة من ربوع الساحل التونسي حاصلة على شهادة الأستاذية في التاريخ مرت بظروف قاسية جدا منذ تخرجها وجهت عشرات المطالب إلى عديد المؤسسات الحكومية والخاصة، شاركت في مناظرات مختلفة من ضمنها «الكاباس» فلا المؤسسات رحمتها برد ولو كان سلبيا... ولا النجاح حالفها في تلك المناظرات وفي خاتمة المطاف أغلقت الباب على نفسها و«غسلت» يديها من كل شيء... وهي الآن أم أطفال مهتمة بشؤون بيتها لا غير... فالحلم أصبح في قاموس الممنوعات لديها... فبعد خمس عشرة سنة لن ينتفض الحلم من قبره ويلبسها تاج الأمل من جديد... تكفيها عنايتها بأبنائها. هذا الوضع ينطبق على زميلتها ليلى.م متحصلة على شهادة الأستاذية في الآداب الفرنسية منذ سنة 2002... حاولت مرات ومرات البحث عن سبيل يخرجها من بطالتها المقيتة والقاتلة.. راسلت الوزارات... والمؤسسات لكن عبثا تسعى تقول هذه السيدة للأسف كنت أظن أن ما سطرته على الورق هو المستقبل الذي ينتظرني كبرت أحلامي من أجل العثور على شغل أتوّج به مسيرتي الدراسية ويقع أمامي العريس الذي يقدر علمي ووظيفتي وجمالي لكن جميعها كانت أحلاما واهية.. فلا عمل أمكنني الحصول عليه.. ولا عريس وسيم وميسور ينسيني أحزاني لقد طويت الصفحة ونسيته.. ذاك قدري ولا مفر منه.. إذ أن ما يؤلمني أن عددا من خريجي الجامعات بعدي عثروا على أعمال لائقة ومحترمة... بينما أنا ومثيلاتي دخلنا تاريخ النسيان من بابه الكبير... عملا بمقولة «الرضى ب...» وبحديثنا مع عدد من المجازين العاطلين عن العمل والذين احتضنتهم المقاهي ونوادي الألعاب أكد أغلبهم ل«الشروق» أنهم مارسوا إثر تخرجهم عديد الأعمال الشاقة والهامشية إلا أنهم فشلوا في المثابرة ليقع الاستغناء عنهم وطردهم وقد ردد جلهم المثل الشعبي القائل «رضينا بالهم.. والهم ما رضي بنا»... وأكدوا أنهم تلقوا التدريس وأنهم إلى حد اللحظة متشبثون بأحلامهم وطموحاتهم.. وتعكس هذه العينة من تجارب بعض المجازين صورة قاسية لواقع بات يعيشه العشرات إن لم نقل المئات ممن لا مال لهم ولا أكتاف.. وقد يضطر بعضهم إلى ركوب الأمواج و«الحرقان» والمخاطرة بحياتهم بحثا عن سبيل لكسب القوت.