يذكرنا ما تتعرض له مدينة بغداد اليوم من نهب وتدمير بالبارحة، وما البارحة ببعيد, ذلك أن مدينة السلام ليست في أول محنها, ففي عام 1258 ميلادي ابتليت باحتلال المغول ونُكبت الأمة الإسلامية بسقوط عاصمة الخلافة وفخر الحضارة الإنسانية بيد أكثر الجيوش فظاعة ودموية ومعاداة للمدنية في تاريخ البشرية. حولت تلك الهجمة أجمل المدن إلىخراب في أيام إذ خلف المغول فيها ما لا يقل عن 200 ألف قتيل في أقل التقديرات. الغريب أن ظروف سقوط بغداد تكرر نفسها بطريقة غريبة: تشتت وفرقة وتناحر بين المسلمين, انشغال بأمور تافهة فيما العدو يزحف على المدينة التي تتعرض لعملية نهب وتدمير واسعة تجاوزت القتل إلى استهداف معالم الحياة والحضارة والتاريخ. سيكون اليوم لنا الكثير مما يستحق أن نستنتجه من سقوط بغداد بيد المغول في منتصف القرن السابع هجري، الثالث عشر ميلادي. ولأن ما حدث بالأمس يكاد يتكرر بالتفاصيل نفسها فنحن نقترح عليكم مسلسلا رمضانيا يستعرض تفاصيل سقوط مدينة السلام حتى نهاية المغول على أيدي المماليك حكام مصر في معركة عين جالوت بعد عامين فقط. إن أولى الخطوات على طريق فهم ما حدث لبغداد هي فهم الظروف التي أحاطت بسقوطها في يد المغول. الحلقة الأولى أزمة الخلافة في بداية القرن الثالث عشر ميلادي (السابع هجري» كانت الدولة العباسية آنذاك لاتزال قائمة في بغداد تشمل جزءا من بلاد العراق يمتد من تكريت إلى الفاو ومن حلوان إلى عانة، غير أن سلطة الخليفة لم تكن تتجاوز حدود العاصمة بغداد وكانت له بطانة سوء تعزله تماما عما يحدث في بلاده. وأيا كانت حالة الخلافة أو طبيعة سلوك الخليفة فإنه كان لايزال يحظى بسلطة دينية كبيرة لما يمثله من رمز للمسلمين وغيرهم من رعاياه بكل تنوعاتهم الدينية والفقهية والعرقية. المشهد العام كان في الواقع مأساويا، إذ كان العالم الإسلامي منقسما من الأندلس إلى الصين إلى دويلات كثيرة انشغل كل حاكم فيها بمحاربة جيرانه لتوسيع نفوذ الجباية فيما كان المغول يقتطعون من أرض الإسلام كل يوم قطعة. ومما يروى من النوادر أن الخليفة المستنصر بالله كان يستمتع برقص جاريته عندما وقع في الغرفة سهم من سهام المغول الذين يحاصرون بغداد. أحس برعب كبير في البداية لكنه ما لبث أن أمر بإغلاق النوافذ والعودة إلى ما كان فيه من اللهو حتى احتل المغول بغداد. بلغت الخلافة عمق أزمتها في عهد الخليفة المتوكل الذي قتله حراسه الأتراك عام 861 ميلادي، لكن تآكلها بدأ قبل ذلك بكثير وكان نتيجة لعدة أسباب منها وصول عناصر جديدة إلى السلطة مجردة من أي ولاء ديني أو سياسي للدولة وليس لها أي رصيد سوى القوة العسكرية، كما أنها كانت تقدم ولاءها العرقي والقبلي ومصالحها العاجلة على مصلحة الخلافة التي لم تكن تعنيها إلا بقدر ما توفره من منافع مادية مباشرة. وقد احتاج الخلفاء تباعا لقوة هذه العناصر قصد ضمان بقائهم في السلطة. ومع مرور الوقت ازداد تعويل الخلفاء على هذه العناصر التي ازدادت شراهة للمال والسلطة تبعا لذلك إلى أن انقلبت على الدولة وأصبحت هي التي تعين خليفة في الصباح وتعزله في المساء أو تقتله ببساطة إذا ما وقف في طريق مصالحها. وهكذا أصبح الخليفة ألعوبة بأيدي رجال لا علاقة لهم بالإسلام أصلا. ثم ازداد الوضع سوءا بتورط هؤلاء القادة في فتن ومؤامرات فيما بينهم بسبب التنازع حول ما بقي من ثروات الدولة. أما في الأعوام التي سبقت سقوط بغداد أي في عهد المستنصر بالله، فإن الخلافة بلغت مرحلة لا سابق لها من التردي حيث أن وزير الخليفة بنفسه هو الذي دعا هولاكو لغزو بغداد طمعا في أن يعينه الغزاة حاكما عليها.