كان العرب في العصر الجاهلي يعبدون الأصنام والأوثان ويعيشون حياة الغزو والنهب والإغارة ويشنّون الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب كما هو الأمر بالنسبة لحربي البسوس و داحس والغبراء بل كانوا يدفنون البنات أحياءَ خوفا من العار تارة ومن الفقر تارة أخرى وقد أراد الله أن يبعث محمد بن عبد الله رسولا إلى كافة الناس لإخراجهم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الإسلامي القويم وأيّدهُ بالمعجزات فدخل الناس في دين الله أفواجا وحلّ الأمنُ محلَّ الخوف والمحبة محلَّ البغضاءِ، وأصبح المجتمع العربي المسلمُ خلقا آخر جديدا قوامه التكافلُ والتضامن والعمل الصالح وعبادة الله وحده دون سواه، وتحدثنا مختلف المصادر أن حبَّ الصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فاق كل حب عرفه تاريخ البشرية قديما وحديثا فلا غرابة إذن أن تكون وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صدمة كبرى وحادثا جللا وصاعقة مدوية تفطّرتْ لها القلوب ودمعت لها العيون واهتزت لها المشاعرُ والأحاسيس حتى أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يصدقْ خبر الوفاة وقال: من قال محمد قد مات، ضربت عنقه بحدِّ السيف، لولا أن ذكّرهُ سيدنا أبو بكر بقول الله تعالى: {وما محمّد إلاّ رسول قد خلتْ من قبله الرسُل أفئنْ مات أو قُتلَ انقلبتُم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضُرّ الله شيئا}. وعندها قال عمر رضي الله عنه: والله لكأنني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله... وإذا كانت محبة رسول الله في قلوب صحابته بهذه المنزلة فلا غرابة أن يكون رثاؤهم لفقده نابعا من أعمق أعماق قلوبهم مبرزا حبهم له وتعلقهم الشديد بشخصه قولا وعملا وسلوكا وقدوة صالحة للدين والدنيا فهذا صديقه وصهره ورفيقُ دربه سيدنا أبو بكر يكون أول من يرثيه بهذه الأبيات: لمّا رأيتُ نبينا مُتجندلا ضاقتْ عليَّ بعرضرهنّ الدورُ فارتاع قلبي عند ذاك لموته والعظمُ منّي ما حييتُ كسيرُ أعتيقُ ويحكَ إنّ خلّك قد ثوى والصبر عندكَ ما بقيتَ يسيرُ يا ليتني من قبل مهلك صاحبي غُيبتُ في لحد عليه صُخورُ فلتحْدُثنَّ بدائع من بعده تعيا بهن جوانح وصدورُ وقد صدق أبو بكر فيما تضمنه البيتُ الأخير حيث ارتدّ كثير من المسلمين وامتنعوا من أداء الزكاة فكانت حروبُ الردّةِ المشهورة. أمّا سفيان بن الحرث فقد جاء في رثائه للرسول الكريم قوله: أرقْتُ فباتَ ليلي لا يزولُ وليلُ أخي المصيبةِ فيه طولُ وأسعدني البكاء وذاك فيما أصيبَ المسلمون به قليل لقد عظُمت مصيبتنا وجلّتْ عشيةَ قيلَ قد قُذبض الرسولُ وأضحت أرضنا مما عراها تكادُ بنا جوانبها تميلُ فقدنا الوحي والتنزيلَ فينا يروحُ به ويغدو جبرائيلُ وذاك أحقُّ ما سالتْ عليه نفوق الناس أو كادتْ تسيلُ نبيُّ كان يجلُو الشكَّ عنّا بما يُوحَى إليه وما يقولُ ويهدينا فلا نخشى ملاما علينا والرسولُ لنا دليلُ أفاطمُ إن جزِعتِ فذاك عُذر وإنْ لم تجزعي فهو السبيلُ فقبرُ أبيكِ سيدُ كل قبر وفيه سيدُ الناس الرسولُ أعتيق: خطاب أبي بكر لنفسه لأن الرسول سمّاه (عتيق) أي عتيق من النار ثوى: مات عراها: أصابها