نتناول مؤتمر بيروت للهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، من زاوية خاصة لا تتجاوز تفاصيل الورقتين اللتين قدمتا باسم اللقاء وباسم الدكتور عزمي بشارة، بل تستلهمهما لتنطلق الى سؤال أساسي يطرحه الواقع ، ويصل الى المبادئ. لماذا لا يمثل أي نشاط سياسي فلسطيني وعربي حالة القوة التي يمثلها الحضور الإسرائيلي؟ وهل ستتمكن الهيئة الوليدة من تحقيق هذه القوة؟ الجواب قد يتفرع الى ما لانهاية له من التحليلات والعناصر، ولكن الثابت والأهم يكمن في الجانب التمثيلي. فعندما يتحدث بنيامين نتنياهو في نيويورك، يتحدث باسم كامل الصهاينة (وليس الإسرائيليين فحسب) وهو يتأبط ذراع وزير دفاعه المنتمي الى الحزب المعارض لحزبه. بينما يتحدث محمود عباس وهو لا يمثل إلا ثلة قليلة من الفلسطينيين، لا تضم جمهور حماس ولا تضم جمهور الفصائل السبع ولا تضم الكثير من المستقلين والاهم لا تضم الشتات الذي لم يعط يوما حق المساهمة في أي اقتراع وأي قرار والنتيجة تحول النظام الفلسطيني الى حال اكثر الأنظمة العربية، يخاف شعبه، ويقدم التنازلات للأمريكي كي يبقيه في السلطة. أما إذا نقلنا الأمر الى البعد العربي الذي تحدثنا بالأمس عن ضرورة إعادة القضية إليه، فان المفاوض الفلسطيني لا يمثل إلا من يعانون من نقطة ضعف أساسية وهي أنهم كليا في الجيب الأمريكي ، فلماذا تدفع لهم أثمانا لا يستحقونها. بل ان واشنطن (ومن ورائها تل أبيب) تعتقد ان على هؤلاء ان يدفعوا لها ثمن بقائهم. وإذ نستعرض معادلة القوة الديبلوماسية هذه ، فلا يمكن لنا ان ننسى ان لا قوة سياسية ديبلوماسية إلا كترجمة للقوة الحقيقية على الأرض، وذاك ما زلنا بعيدين عنه كثيرا فلسطينيين وعربا، بل الأدق إننا ابتعدنا عنه أكثر من الماضي، رغم ان إسرائيل ومن وراءها هي اليوم اضعف منها في أي وقت مضى. كذلك فإننا لا نستعرض حرصا على المفاوضات التي بات حلمها المصيري تجميد الاستيطان لعدة أشهر، لا مقاربة لكفر وقفه، كما لا مقاربة لاستمراره في كل ما يخص المنشآت العامة، الحكومية والدينية وفي القدس. الحرص يتجه الى إنجاح أية مبادرة بديلة تعيد الوحدة الى الصف الفلسطيني، في إطار الاصطفاف المقاوم في الجانب العربي. ومن هنا ذهب الحشد الكبير الى لقاء بيروت: جاؤوا من كل الأطياف والفصائل والأحزاب والأقطار، من كل الأديان والمذاهب، يجمعهم شيء واحد، الالتفاف حول البحث عن بديل يحفظ الثوابت والحقوق الفلسطينية، معيدين بذلك الصورة المتوهجة التي كانت تحكم السبعينات: التفاف عربي كلي حول المشروع الفلسطيني عندما يكون هذا المشروع هو مشروع الأمة، ويكون محوره عدم التفريط بالحقوق الثابتة، التي هي كذلك بالنسبة لأي شعب من شعوب العالم. من هنا يتقدم البرهان مرة أخرى، على ان الحفاظ على الحقوق هو الذي يجمع، والتفريط بها هو الذي يفرق. وإذا ما سمحنا باستعمال مصطلح الثوابت بدلا من الحقوق، فان النموذج الاسرائيلي يصبح ناطقا ودالا. علما ان الفرق بين الثوابت والحقوق هو ان الحقوق هي دائما ثوابت لكن الثوابت قد لا تكون حقوقا، وربما عدوانا وعنادا، إضافة الى ان الحقوق أبدية أما الثوابت فقد تكون مرحلية. وعندما تكون هذه الحقوق هي أبجديات الحقوق الوطنية: حق الشعب في الأرض، وحق أبنائها في السيادة عليها، فان كل الاختلافات الأخرى تصبح طبيعية وصحية، وقابلة للإدارة. أما عندما تصل جهة ما الى التفريط بالحق الأول ومن ثم بالثاني: بحق الموجودين بالبقاء، إذا ما استمر الاستيطان وأقرت يهودية الدولة، وحق المهجرين بالعودة، فان لا شيء يعود قابلا للإدارة. بل ان الخطر المحتوم سيتعدى فلسطين الى الأمة كلها، الى هيمنة إسرائيلية على كل المنطقة العربية. لقاء بيروت تشوبه بعض الهنات القابلة للإصلاح، لكن قيمته تظل في التوافق على عدم التفريط، وهو لقاء لا يشكل منظمة تحرير جديدة أو حتى فصيلا جديدا، لكنه قادر على ان يتحول الى قوة ضغط على المنظمة والفصائل. ونأمل في أن يكون دوره قد بدأ، ولو جزئيا، في المصالحة بين «فتح» و«حماس».