فاجأت رواية «خان زادة» الصّادرة عن دار الآداب بيروت 2010 الوسط الثقافي العربيّ لسببين اثنين: أوّلهما أنّ كاتبتها لينة كريديّة، عرفت كناشرةٍ، تدير دارًا من أكبر دور النشر اللبنانية هي دار «النهضة العربيّة»، ولم يسبق لها أن نشرت، قبل هذه الرواية ، أعمالا سرديّة تذكر. ثانيهما أنّ هذه الكاتبة عرفت بشغفها بالشعر حتى أنّها أقدمت، بجرأة نادرة، على نشر سلسلة شعرية ضمّت أهمّ التجارب الشعرية المعاصرة في الوطن العربي.. لهذا كان من المتوقّع، كما قال الشاعر عبده وازن، أن تصدر النّاشرة بعدما قرّرت خوض عالم الكتابة، ديوان شعر. لكنّ الكاتبة آثرت أن تجنح إلى الرواية، وإن لم تتخلّ، داخل الرواية، عن الشعر توظف طاقاته المجازية ... والوجدانية. استخدمت رواية «خان زادة» ضمير المتكلم المفرد، وهذا الضمير جعل الرواية ، تلتبس، في ذهن المتقبل ، بالسيرة الذاتية، والراوية تلتبس بالكاتبة، والشخصيّات المتخيّلة تلتبس بالشخصيّات الواقعيّة، وهذا ما دفع الكاتبة إلى أن توضّح في الحوارات التي أجرتها مع الصحافيين أن «الرواية ليست سيرتي الذاتيّة، فأنا لست خمسينية ولا مدخّنة. والقصّة ممكنّ أن تحدث مع أية امرأة في العالم» ثم تضيف «ممكن أن تحتوي الرّواية أخبارا عن بعض الأشخاص في عائلتي، لكنّها محرّفة ومصبوبة في قالب مختلف، والأحداث والأشخاص ليست سوريالية وبالتالي قد تنطبق على أي إنسان عاديّ يعيش، يحسّ ويفكّر، ولكن ليس بالضرورة أنا شخصيّا ...». إن هذا الالتباس ما كان ليحدث لواستخدمت لينة كريدية ضمير الغيبة، على سبيل المثال ، فهوأدعى إلى الحياد، لأنه من الضمائر التي تجعل العالم المتخيّل بمنأى عن العالم الواقعيّ، والسارد بمنأى عن الكاتب... بيد أنّ الكاتبة تقصّدت، في آعتقادنا، هذا الالتباس لتلغي، عن وعي عامد، الحدود بين الكائن والمحتمل على حدّ تعبير أرسطو، أي بين الواقعيّ والمتخيّل، لا سيما وأنّ الرواية لم تفتأ تحيل على المرجع بآستمرار تسترفده، وتوظّف أحداثه الدّرامية الهائلة: الحرب الأهلية اللبنانية، احتلال العراق، الصّراع المتواصل بين الفصائل الفلسطينية... لكنّ ضمير المتكلّم المفرد لا يفضي إلى التّداخل بين الروائي والواقعيّ فحسب، وإنّما يحوّل النص، كل النّصّ، إلى خطاب «ذاتي» مفعم بطاقات شعريّة لافتة... وتتأكد هذه «النبرة الذاتية» إذا علمنا أنّ الرواية، كل الرواية، حركة داخل الذّات، استنفار للذاكرة، استدعاء لما اختزنت من أحداث ووقائع. فالرواية كل الرواية إنّما تقول «الخارج» من خلال «الدّاخل» أي تفصح عن العالم من خلال لغة الذّات. هكذا تتحرّك الرواية في تلك المنطقة الغامضة التي يلتقي فيها أكثر من جنس أدبي، أكثر من طريقة في تصريف النشر، أكثر من أسلوب في تصريف الكلام. ففي هذه الرواية شيء من تدفق السيرة الذاتية وشيء من إيقاع الشعر، وشيء من تقطيع السينما، وشيء من توتر الدراما... ثمّة جمع ذكي بين هذه المتنافرات في مساحة من القول محدودة. لهذا يخامرنا الإحساس بأننا إزاء رواية وظّفت أكثر من أسلوب لتنجز عالمها المتخيّل، أنّنا إزاء رواية لم تقم على تعدّد الأصوات، بما أنّ الصوت المهيمن هو صوت الراوية يبسط ظلاله على كل الأصوات الأخرى، وإنّما قامت على تعدد الأساليب وتنوع طرائق تصريف السرد.