تكونت ذاكرتي قبل ميلاد الزمان... وقبل تفتح الحقب ...فصار بذلك حديثي نزيفا لا حديثا... واستحال جسدي حدودا للنار قد أكون جارية هاربة من أقبية الحريم في القصور... أو متطاولة على مملكة الرجال الرجال الذين مازالت الحرية حكرا عليهم... ومازالت كل امرأة متمردة في نظرهم سطحية، غبية، مجنونة، بلهاء.. مازالت كل من تكتب عن همومها امرأة حمقاء أجل أنا الحمقاء التي صار قلبها بعيدا كبلادها أنا الحمقاء التي قررت أن تلبي رغبة ذاكرتها الملحة وتتحدث عن خفايا صدرها الأشياء حولي مبهمة وحواسي أفلست منذ دهر... منذ حاول ذلك الشيخ المتصابي أن يسلبني حياتي فبالرغم من كل ما وصلنا إليه من تقدم وتطور وحريات ومساواة مازال الرجل وحده مالكا لصولجان الحياة... الشرف... والكرامة والأخلاق وأوسمة تلطيخ شرف النساء... كنت يافعة وكان في خريف العمر.. كنت أرى فيه أبا ككل أستاذ مر في حياتي وكان يرى فيّ الأنوثة المكتملة حين دعاني أول مرة إلى مكتبه لبيت الدعوة بشيء من الرهبة إذ كنت أخشى أنه بدر مني ما أغضبه... لكنه طمأنني وهدأ روعي ليثير شكوكا في صدري بدعوته لي ليلا والمبيت مقفل استغربت.. وحين فسروا لي نواياه... اختفيت من أمام ناظريه.. أضناه السؤال عني وما إن وقعت عيناه عليّ حتى أنبني كثيرا وأمرني باللحاق به إلى مكتبه تبعته على مضض جلس وراء مكتبه ووقفت أمامه كعصفور تحت القطر طفق يتحدث... يوبخ.. يصيح.. وبعد برهة تغيرت اللهجة لتصير أقل حدة... بل صار كلامه أشبه بالهمس... نهض.. من على مكتبه كنت طوال هذا الحوار أو بالأحرى هذه المحاضرة التي كان يلقيها على مسمعي صامتة امتد صمتي أمام الباب كحي قديم.. كشارع مهجور... حتى أعياه فحاول الاقتراب وارتشاف قبلة من شفتي حينها فقط غادرت صمتي... صحت لأزيح عن جبين المكان قبعة الهدوء وهربت من أزقته بعد أن أمطرته بوابل من الشتائم وذلك الذي وقف ليساند تطاوله علي ...خرجت من عنده شاحبة كالقمر تتلاطمني أمواج الضياع والعدمية ...خرجت كقطرة دم تفتش عن جبهة نزفتها نسيت كل الأمكنة التي حولي وانقلبت اللحظات على بعضها ...واستحلت بفضل شيخ عابث جرف رمل تحمله سيول الأمطار حيث ما أرادت بعد أن كنت جلمود صخر ... جربت الموت ... جربت الرحيل في المتاهات ...جرحتني الورود طعنتني الوجوه وخانتني الليالي ...سهرت كل ليلة ووجعي... وصوت ذلك الخنزير يطاردني كأصدإ قثارة... حتى كدت أنهار ...طارتدني ذكرياتي وكادت أن تأخذني من حياتي ...فكدت أجزم أن هذه الدنيا فتشت جسدي برمته حتى أظافر لتأخذ منه السعادة لكن بسمة أمي لفتني ...وعادت تلقنني من جديد أن البشر ذئاب والسقوط عار والفرار مذلّة حينها أدركت أن المرأة ر حم الأض الخصب أنها وحدها من عليها أن تراقب حركاتها وسكناتها أنها من تكنس البيت وتغسل الثياب وتطبخ الأكل وتغير ملابس أطفالها وتطالب المجتمع بحقوقها أنها ثدي الأرض وحضنه الرحب ولمسته الحنون أني زينة الفتيات وأكثرهن شرفا وأني طموح عاقلة وأنه علي تطوير حياتي وتحسينها لأصل إلى أهدافي ولو استغرقني ذلك زمنا طويلا حينها شرعت أبوابي وشبابيكي لأدعو الإعصار إلى غرفتي الهادئة التي ملت السكون