في زمن أصبح فيه الشعر في عالمنا العربي يغرّد خارج السرب ملوّحا بالهزائم والانتصارات، وبالحب والعشق وقيمة الانسان وبالحريات متجاهلا مآزق الحياة، وجوهر الأشياء وعمق الوجود حتى أضحينا نعيش في عالم فيه الكثير من الشعراء والقليل من الشعر حسب تعبير محمود درويش في حديثه عن الشعر العربي. وفي هذا الزمن الذي همّشت فيه القصيدة العربية الحياة بحثا عن جمالية الصورة الشعرية وبدواعي المغامرة اللغوية يطرح الشاعر التونسي نزار شقرون ديوانه الجديد «هواء منع الحمل» بلغة شعرية فريدة تخلخل ما هو مألوف، ليعبّر عن مكنونات النفس وعن مجريات العصر ويثير أسئلة الوجود ويدعو الى التأمّل والتفكير. لقد قام نزار شقرون بنسج الصورة الجمالية لشعره من مكنونات ذاته ليبثها في براثن نصوصه، فكانت القصيدة مغلفة بجمالية غنائية بعيدة عن الإبهام والغموض واضحة الرؤيا مع اختيار ما له وقع على ذائقة المتلقي فتلج قصائده الأعماق دونما استئذان، فكان الشاعر يستلهم مجمل تصوراته من خلال حوادث مرّ بها أو تساولات طرحت عليه فيقدمها للمتلقي في جو شعري مشحون بفلسفته الذاتية: «في شهر رمضان كل يوم يسألني ابني متى يجيء رمضان؟» وجاءت لغة الشاعر في مؤلفه الجديد مبنيّة على هذه الصور الجمالية المفعمة بنسق الكتابة والشفافية، كتابة دون مساحيق، فلا نجد في صوره عبثا أو تكلّفا أو اصطناعا لموقف شعري: «ساعة البلدية عقاربها لا تلدغ إلا الوقت الثواني من فرط تسلحفها تعاني» فيعيد الشاعر الى الذاكرة صلة الشعر بالحياة مثلما جاء على لسان الدكتورة وجدان الصائغ في مقدمة الكتاب، مقدما لنا شعرا مفعما بالأضداد والمفارقات ومتّشحا بالغنائية بأسلوب تراجيكوميدي يعبر عن رفضه كشاعر لكل ما هو ثابت ويدعو الى مساءلة الواقع السياسي والاجتماعي العربي دون الارتكان الى النبرة المستصرخة للمآسي والفواجع بأسلوب تقريري وشعاراتي. فالشاعر يمتلك روح المبدع الذي تنفجر همومه وكأنها ملحمة تجسّد عذابات الأمة المعاصرة والذات المبدعة فتلتحم المقصديات الشعرية مع جمالية الصورة البنائية فتسري أنغاما في كل أذن، وتتجلّى لنا في بعض النصوص تلك المفارقات التي تضجّ بها حياتنا اليومية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون عليه الواقع المعاش حتى أنك تجد نفسك عند قراءة بعضها وكأنك أمام مرثية من نمط جديد تخلو من كل تنميق وتزويق لفظي، فيصور الشاعر تارة النهاية التراجيدية للذات المبدعة المغتربة المكبّلة بالفجيعة على عرش الغياب والعدم، ومبرزا أحيانا أخرى غياب الجانب الانساني في الحياة لا سيما عند تشبيهه للكائنات بالصراصير. «عندها كنّا نتجرّع قطار الساعة التاسعة ونتفرّس خروج آخر الصراصير من علبة غراهم غرين» وتحدث نزار عن النخبة العربية التي باعت ضميرها بعد أن فقدت أحلامها وخابت آمالها في التغيير والتجديد. وبأسلوب السخرية القاسية يشير الشاعر الى تيّار اليسار العربي الذي حرمنا من العديد من التحولات الاصلاحية الاجتماعية والسياسية مما خلق نزعة سيكولوجية مستديمة تنبذ شجاعة الإقدام على الممارسات التصحيحية أو الإقرار بأي خطإ فكري وسياسي، فلم يكن للإعلام من موطن غير مصبّ الزبالة أين غطّت رائحة عفونة الأحلام رائحة سيقار كاسترو. «الثوريون القدامى علّقوا شاربهم البلشفي على فوهة النرجيلة تطاير شعرة شعرة مع دخانها نزلت الأحلام في مصب الزبالة قرب المصنع الكيميائي ظلّت رائحة العفونة أعلى من رائحة السيقار الكوبي» كما امتدّت نصوص نزار شقرون الى إثارة قضايا بيئية امتزج فيها السياسي بالاجتماعي لا سيما عند تصويره لشارع البيئة الذي طالته السياسات الاقتصادية الخاطفة وحولته الى مصانع كبيرة لا يمكن لغير الموت أن يجاورها: «في شارع البيئة شاهد أطول نرجيلة في قلب المصنع يدخنها شعب أبكم حدث دراجته: هل أتكلم؟ وشى به ظلّه قبل أن يتمتم» وقد افتتح الشاعر نصّه «هواء منع الحمل» الذي بيّن فيه انقباض النخبة العربية بالحديث عن هذه البيئة التي لم تسلم من السياسات المدمرة لها: «جسران يطلان على شارع واحد مقبرة والمصنع الكيميائي يمدّ غليونه في السماء يجرد الزياتين من لونها ويضاجع السيارات البيضاء تحبل بالموتى» وما يثير الانتباه في هذا المنجز أن الشاعر قد مزج بين الشعري والتشكيلي ليعكس سريالية الواقع، فيبثّ في النص أصواتا وأحاديث ووقائع يراها ويسمعها هي من حيث يتأمل المشهد من بعيد، لكنه يحرص على أن لا يتورط مباشرة في ما يسمع ويرى ويشعر فيترك القارئ ينتظر لحظة الغياب بتلهف أكبر. «الحفيدة رورة بنت كانت تلعب بتراب شاطئ سيدي منصور صنعت دمية وضعتها على عشب البحر لتنام وركضت الى البحر يجري خلف البحر لكنّ الدمية صارت تلهث» كما عمد الشاعر في مواطن أخرى الى محاولة إيصال المعنى الى حيث لا مجال بعده ليكتسب معاني متعددة، أو أنه يطرح تساؤلا ودون أن يجيب يعرج للحديث عن صور أخرى: «الحلق أبيض ريق لا رضاب له والأجداد من القبور أخرجوا أحلامهم العظيمة وسألت شواهدهم من يرفع هذا الظلم؟ من يرفع الفضلات من أمام البلدية» لقد عاد شقرون في هذه المغامرة الشعرية بالشعر الى الحياة لاستعادتها وإخراجها من بوتقة الموت والعدم المتربص بها، وإن كان من المحال على الشاعر أن يغيّر الواقع، فإنه يحاول تغيير ذائقة الانسان وروحه فينبعث الشاعر من بين براثين الموت كالعنقاء التي تتولد من رمادها، مؤكدا ديمومة الإبداع الذي يعني الحياة والتجدّد.