عندما كنا صغارا لا نكاد نفقه من شؤون الدنيا شيئا , كانت الكائنات الصغيرة من حشرات وهوام في مدار ألعابنا اليومية التي كانت تشكل وسيلتنا الأولى لاستكشاف العالم والطبيعة وسائلنا للإدراك والفهم وبداية تشكل الثقافي الأولي فينا... وكان النمل إحدى الكائنات التي كانت تنازعنا ذلك الفضاء اللعبي بقوانينه وخيالاته وأساطيره... نعم النمل والنمل الأسود الذي كنّا نبجله ونتحاشى دهسه بأرجلنا في مقابل النمل الأحمر العدواني الذي كنا نلعنه لأنه نمل خبيث ارتسم في أذهاننا الطفولية أنه «نمل فرنسا» التي استعمرتنا... وكان من أترابنا من يعمد لإيذاء هذا النمل الأحمر لأنه محط غضب ونقمة بوصفه مرتبطا بصورة تلك القسوة التي تناقلها حديث الآباء حول عدوان فرنسا وحول العساكر الفرنسيين... كانت أسطورة شعبية قد نسجت بشكل رمزي حول هذا النمل الأحمر الذي كان في أذهاننا صورة للعدو وشاهدا على الذاكرة الشعبية الحية التي أسبلت منطقها على الكائنات والهوام... لا ندري من اختلق هذا التفريق بين النمل الأسود وطيبته وبين النمل الأحمر وخبثه وعدوانيته وهناك من يقول من باب الخرافة طبعا إن النمل الأحمر قد تكاثر على إثر العدوان الفرنسي على قرية ساقية سيدي يوسف فيما إنقرض النمل الأسود. (2) ونعتقد أن المخيال الشعبي من وجهة نظر ثقافية أنثروبولوجية وقد ورّط مبكرا الحيوان والهوام والحشرات ضمن نظرته للعالم والكون, وضمن حروباته الصغيرة أو حروبه المصيرية, ويكفي فقط أن نلقي نظرة على تراثنا العربي الإسلامي العليم الذي تناول وهو يؤسّس موسوعته الطبيعية كيف ورد ذكره للحيوان والهوام ملتبسا بخلفيات ثقافية وعقائدية وأسطورية سواء تعلق الأمر بالنظر في الطبيعة الحية كما هوحال الجاحظ في كتابه «الحيوان» أو الدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى» أو تعلق الأمر بالتبويب الكوسموغرافي كما هو الحال في كتاب «عرائس المجالس» للثعلبي النيسبوري أوكتاب «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني, والأمر نجده في حضارات الشعوب والأمم الأخرى مزدحما بمثل هذه العلاقات الملتبسة بين الواقع الحي للحيوان والهوام وبين الواقع الأسطوري المتخيل له. ولا يزال هذا التوظيف الرّمزي للحيوان والهوام قائما إلى اليوم في حياة الحضارة الإنسانية, ومن بين هذا التوظيف أن البعض من المسلمين لايزال متمسكا به كجزء من التمسك بالخرافة والأسطورة وأخطرها ما يوظف الآن في الخطاب الديني الذي لا يزال قائما على ما يسميه جورج طرابيشي خطاب: «المعجزة أوسبات العقل في الإسلام». (3) ومن بين مظاهر هذا التوظيف للحيوان والهوام في الخطاب الدّيني ما نسمعه في الفضائيات الدينية ذات الخلفية المذهبية, وهوتوظيف من أخطر ما يكون... ولنذكر نموذجا عن هذه الحال, هومثال البرعص أو السحلية أو ما يعرف عندنا ب«الوزغة» كما جاء على لسان أحد خطباء الشيعة في العراق من خلال بعض الفضائيات والتي يرتسم فيها ضراوة الحرب العقائدية بين السنة والشيعة , وقد تناقلت هذه الخطبة العديد من الفضائيات وفي مسالك الشبكة العنكبوتية لتكريسها وترسيخها كحقيقة مصيرية لابد من اعتناقها. تصوروا أن هذا الحيوان الضعيف وهو البرعص لا يزال إلى اليوم يؤجج النيران بين الشيعة والسنة وهو من هذا المنطلق مرشح لأن يكون حليفا ناجعا للغزوالأمريكي للعراق بوصفه محطا للفرقة الطائفية في بلاد الرافدين !!!. ولنقرأ هذا الخطاب. (4) يقول هذا الخطيب كما ورد على لسانه : «....هذا البرعص أو البرص لعنه الله, هذا الخبيث مبغض لأهل البيت ومن يقتله هذا اللعين له مائة حسنة... (ويذكر) أن الإمام الصادق (الإمام السادس جعفر الصادق) جلس وواحد (من شيعته) جالس بجانبه, وإذا بالبرعص على الجدار يطلّع لسانه , فألتفت الإمام الصادق الذي يجلس بجانبه وسأله: «أتعرف ماذا يقول هذا البرعص, هذا الناصبي الخبيث؟» فأجابه الذي يجلس بجانبه: «لا أعرف... , فقال له الإمام: «إنه يقول: «إن سببتم عثماننا (أي عثمان بن عفان) سببنا عليكم (علي ابن أبي طالب)»... ويواصل الخطيب فيقول:... هذا حيوان ناصبي خبيث ولك أن تلاحظ جلده, كل جلده, كأنه واحد مغضوب عليه تشمئز منه الأنفس... هذا الخبيث من الحيوانات المبغضة لأهل البيت... ولقد أراد الإمام الصادق من الموالي أن يجد ويجتهد في قتله من أول ضربة لكي يحصل على مائة حسنة , حتى أن بعض الأحاديث تقول ومن قتله من ضربتين أوثلاث فحسنته أقل...». تصوروا مثل هذه العقول المجتهدة الآن في هذا الزمن كيف ترى الأمور وكيف تنظر إلى العالم والكائنات... وكيف يتلهى البعض بمطاردة البرعص وقتله بضربة واحدة, فيما يرى في الخراب ماثلا على أرضه مسألة طبيعية. (5) إن مثل هذا الخطاب الذي ينضح عنه بمثل هذا التفكير المظلم, والذي لا تقتصر مصادره على بعض من الشيعة بل على بعض من السنة أيضا دليل على ما يتم تخريبه في ثقافة الأمة وجعلها رهينة لهذا السبات العقلي الذي وجد في الفضاءات الاتصالية الحديثة أداة فتاكة لتدمير كل ما هو عقلي وتنويري في الواقع المتردي للمسلمين , فيما تضيق بالمقابل مقامات الإصلاح والتعقل فيما تظل السحلية أوالبرعص بيدقا ناقصا في رقعة «الفتنة الكبرى» لا بد من استنفاد توظيفه على الرقعة ليكتمل الخراب... كش مات... عذرا هشام جعيط.