ختم السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي الحوار مع المواطنين الذي بثته التلفزة التونسية مساء الثلاثاء 28 سبتمبر 2010 في سياق الحوارات التي أذن رئيس الدولة باقامتها، ترسيخا للممارسات الديمقراطية وزيادة في الشفافية، بتأكيده على أن التعليم العالي شأن الجامعيين وكل التونسيين. ويرمي كلام السيد الوزير، من دون شك، الى ضرورة انخراط كل الجامعيين في الشأن الجامعي وألا يعتبروا عملية الرقي بجودة مردوديته شأن وزارة الاشراف والقائمين عليها، وأن نقضي على الفكرة الشائعة بأن الأستاذ الجيد هو من ينصاع للأوامر فينفذها من دون مناقشة ولا اعتراض والأستاذ السيئ، بالمقابل، هو من يشكك في قرارات سلطات الاشراف وفي الكم الهائل من التضحيات الجسام التي يتكبّدها يوميا المشرفون على القطاع. أتمنى شخصيا كل النجاح للسيد الوزير في اقناع كل الجامعيين وكل المشرفين على القطاع بهذا المبدإ ليصبح ديدن كل العاملين والمنتفعين من التعليم العالي من جامعيين واداريين وطلبة وأولياء ومشغلين وكل المجموعة الوطنية. واذا كان الكثيرون يعتبرون أن الجودة، التي كانت منذ أربع سنوات خلت لفظا يثير التندر والاستهزاء، هي التحدي الأول الذي يواجه التعليم العالي اليوم، فأغلب ظني أن انخراط أكبر عدد ممكن من الجامعيين في ارساء تقاليد مستدامة لجودة التعليم والتعلّم والبحث لهو تحدّ أكبر بكثير، اذ لا يمكننا الحديث عن الجودة من دون انخراط غير مشروط من طرف الجامعيين وهم مؤمنون بجدواها وقيمتها وضرورة السعي الى الرفع من مستوى مردودية مؤسسات التعليم العالي، معتبرين ذلك واجبهم نحو الأجيال القادمة في ضمان حقهم لا في التعليم فقط بل أيضا وأساسا في التعليم الجيّد. الجودة ولا أبني رأيي هذا على انطباع شخصي بل على أبحاث كنت قد أجريتها مع الأكاديميين التونسيين لأسبر رؤاهم وميولهم. وقد خلصت من ذلك الى أن جل الأكاديميين يعتبرون الجودة بعيدة المنال في الوقت الحاضر ويعتقدون أن سلطة الاشراف مطالبة بتطبيق الجودة على أرض الواقع بما أنها قررت ولوحدها برنامج الجودة. ولا يسمح المجال لاستعراض وتحليل كل نتائج هذه البحوث، ولكنني ما استطيع الجزم به هو أنه لا يمكن أن نجوّد الممارسات اليومية في ما يقارب مائتي مؤسسة تعليم عال في كل أنحاء الجمهورية من غير انخراط الجامعيين بكل أصنافهم. وهذا الانخراط لا يكون انصياعا أعمى للأوامر ولا ولاء غير مشروط لأشخاص معينين، بل يكون اقتناعا بضرورة التجويد وبامكانيته، وللسبل الكفيلة ببلوغ أعلى درجاته. ولبلوغ هذا الاقتناع، نحتاج الى القيادة الأكاديمية التي أرانا شيئا منها السيد الوزير في اختتام حواره المذكور. ولكننا أيضا بأمس الحاجة الى قادة أكاديميين أخرين يقنعون زملاءهم تارة بالقول وأخرى بالعمل فيكونون قدوة للأجيال الشابة من الجامعيين الذي يبدؤون مشوارهم الأكاديمي الآن والذين يتوقع منهم أن يكونوا المحرك الحقيقي للتغيير نحو الممارسات الجيدة، ولكن كذلك قدوة للأساتذة القدماء الذين بذلوا الكثير للجامعة التونسية والذين هم مطالبون بالبذل أكثر لا كأفراد ولكن كمجموعات من خلال أقسامهم العلمية ووحدات البحث ومدارس الدكتوراه ولجان الانتداب والترقية. في مفهوم القيادة تبدو القيادة الأكاديمية مفهوما بعيد المنال في ثقافة تعليم عال يغلب عليها فكرة أن الجامعي موظف من موظفي الدولة يؤدي واجبه بصمت وبأقل مشاكل ممكنة، فلا يطالب ولا يناقش ولا يدلي برأي مخالف للرأي الذي يتوقع منه أن يدلي به بل يطبق الأوامر واللوائح بكل تفان بغض النظر عن الجهة المصدرة لهذه الأوامر واللوائح. لقد أصبح العديد من الجامعيين من الأجيال السابقة والأجيال الصاعدة يعتبرون مؤسساتهم منصة انطلاق لتحقيق مآرب نفعية أخرى، ولا تهمهم مصلحة أحد فيها غير مصالحهم الخاصة. كثيرا ما يختار هؤلاء الصمت حيال القرارات العديدة التي تتخذ في مؤسساتهم وفي ما يخص التعليم العالي بشكل عام، فيُأَوّل صمتهم على أنهم من الموافقين والموالين بينما هم في الحقيقة لا يكترثون ولا يبالون من قريب أو بعيد بأي شكل من أشكال التغيير الذي يخص مهنتهم. لو قورنت عطالة (inertie) الأغلبية وعدم اكتراثهم بمعارضة البعض، وهم القلة، فلا يسعك، حينئذ، الا أن تختار المعارض الذي ينخرط في شأن التعليم العالي على اللاّ معارض الذي لا تهمه الا مصلحته الخاصة ولا يحرك ساكنا الا عندما تمس مصلحته تلك من قريب. ان المشكل الحقيقي يتمثل في أن المعارضة المجاهرة قد اتخذت أشكالا سياسية لا مهنية تنفر العديد من الأساتذة بدلا من أن تقربهم. ومن المؤكد أن الجامعيين بكل أصنافهم لفي أشد الحاجة لفضاءات مهنية بحتة يبحثون فيها شأنهم ويدلون بأصواتهم من غير تأويل سياسي يقسمهم الى موال ومعارض. وبذلك يصبح التعليم العالي شأن الجامعيين وشأن كل التونسيين. جوائز كنت قد اقترحت منذ فترة انشاء جائزة الأستاذ الجيد وجائزة المؤسسة الجيدة كوسيلة لحث الجامعيين على الاجتهاد ولكن كذلك لمجازاة المجتهدين على اجتهادهم، فرد البعض على مقترحي هذا بأنه أقل بكثير مما يتصوره عن الجودة. كُنت ولا أزال أرى في مثل هذه الجائزة بداية طيبة خاصة اذا ما ضمنا لها الشفافية والحرفية اللازمتين. ما لم أكتشفه حينئذ هو أن الكثير من الجامعيين ومن المسيرين يعتقدون أن الجودة وصفة أو تكنولوجيا نستوردها جاهزة للاستعمال مثلها مثل جل ما نستورد من أجهزة ومعدات. وهكذا يقتصر دور المستوردين على التأكد من جودة المصدر ومن حسن استعمالنا لهذه التكنولوجيا المستوردة. من المؤكد أن الذين يعتقدون مثل هذا الاعتقاد، سواء من العاملين أو المنتفعين من القطاع، سيصابون بخيبة أمل مريرة واذا أصروا على موقفهم هذا فانهّم لا محالة سيكلفون المجموعة الوطنية الكثير من الوقت والمال والبدايات الخاطئة. لا نستطيع أن نستورد الجودة ولا أن ننقلها، بل نستنبطها على حسب قياسنا للوضع الراهن ومن الأهداف الدقيقة التي نحددها على المدى القريب والمتوسط والبعيد. ليست الجودة هدفا في حد ذاته بل مقاربة نحاول أن نرفع بها من مستوى مخرجات مؤسساتنا لنقترب أكثر فأكثر من المعايير العالمية. فهل توجد وصفة سحرية؟ ربما، اذا ما ضمنا انخراط الجامعيين الذين سيستنبطون لا وصفة واحدة بل وصفات عديدة ينجح بعضها ويفشل بعضها الآخر، فلا يثنيهم الفشل عن المضي قدما بل يستنبطون حلولا أخرى أجدى الى أن نرقى بمستوى مخرجات التعليم العالي الى درجات أفضل بكثير مما هي عليه الآن. لن نصف الوصفات الناجحة بالسحرية بل بالتونسية، فنبني بذلك موقعا في خارطة التعليم العالي الدولية ونساهم في التجربة العالمية عن طريق بناء المقاربة التونسية. ولن يكون هذا ممكنا الا عن طريق انخراط أكبر عدد ممكن من الجامعيين. وكما قال أحد الكتاب البريطانيين: “اللّهم هب لي الصبر والجَلَد على قبول الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، والشجاعة على تغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها والحكمة في معرفة الفرق بين الاثنين.” ( كاتب مجهول).