كلما كانت معركة الحرية كبيرة، كلما تطلبت احرارا أكبر. والنصر ليس صعبا، يكفي ان يكون الاحرار أحرارا فعلا حتى تنبت بذرة النصر بين أيديهم. العراقيون، مثلهم مثل الفلسطينيين، يخوضون معركة حرية لا أكبر منها ولا أعتى، ولكن ثمة أحرار، في صفوفهم، و«أنصاف احرار». لا تفهمني خطأ. نعم يوجد أحرار على كفاية من الثبات، الا ان الجدب والفوضى واضطراب الخيارات تظهرهم وكأنهم زبد، رغم أن كل شيء عداهم هو الزبد. وهذه أيام عظيمة لمن يراقبون كيف يحفر التاريخ مجراه. فالكل يرى بالخبرة المباشرة، أنك عندما تتعامل مع قضية الحرية، ببصيرة الدفاع المستميت عن الحق، تكون شيئا. وعندما تتعامل معها ب «بصيرة» السمسار، تكون شيئا آخر. السياسة السائدة هي السمسرة، ونموذجها صارخ في العراق وفلسطين. ففي كلا المكانين توجد حكومات سمسرة. ويوجد سماسرة يبيعون ويشترون ويبحثون عن «الممكن»، ليس في الحكومة وحدها، بل وفي «مقاومتها» أيضا. فينتهون بتنازلات، ثم تلي التنازلات تنازلات أوطأ منها. فلا يخرج أحد منها كاسبا، الا الاحتلال. لقد عثر الامريكيون والاسرائيليون على «أفضل» ما يناسبهم في الشعبين من نماذج للسياسة. وهؤلاء لم ينزلوا من الفضاء. لقد نبتوا هناك. على تلك الارض. انهم جزء لا يتجزأ من «الشعب» الذي تحولت فيه قيم الحرية وأخلاقياتها الى زبد يصارع من أجل البقاء. الاحرار يقتلون او يذهبون الى السجون، أما السماسرة فيشكلون حكومات ويرتقون وزارات، لأن هذا هو المطلوب بالضبط. هل تشعر بالقهر وأنت تتابع الاخبار، وبأن شيئا ما يدمرك من الداخل، عندما ترى الزيف والانتهازية والعمالة تقدم نفسها على أنها «انتصار»، وعلى أنها «سياسة»،وعلى أنها «وطنية» أو «نضال»؟ هناك سبب. وهو أن احرارك ليسوا على عناد الاحرار بعد. وليسوا مع بصيرة الحق على رباط بعد. وبفضل قلتهم «ينتصر» الزبد، وتنقلب الاشياء حتى لتبدو العمالة وطنية، والمقاومة إرهابا، والسمسرة سياسة! ثمة ما ينقص في معترك الحرية الذي نخوضه، والقتلة والمجرمون والفاسدون والمنافقون لا يسودون لأنهم جاؤوا على ظهور الدبابات، بل لأن قيما بكاملها هي التي اندحرت قبل ان يأتي الغزاة! وبعض الاحرار صار أقل حرية، لأن ضيق العيش صار يدفعه الى البحث عن «طرق سريعة» و«صفقات»، حتى بدوا وكأنهم ماضون في الطريق ليكونوا جزءا من مشروع الاحتلال. الذين يحتلون العراق ليسوا هم الامريكيون انحطاط القيم هو الذي يحتل العراق. فكر بالامر. وستجد أن من المستحيل على 150 أو 300 ألف جندي ان يحتلوا بلدا فيه 25 مليون حر. لو وزع كل أولئك الجنود على المدن، فلن تجد واحدا في كل عشرة شوارع فمن أين جاء الاحتلال! والاسرائيليون ليسوا هم الذين يحتلون فلسطين. ولو ضرب الفلسطينيون بأقدامهم في الارض بتوقيت واحد كل صباح، لعرف الاسرائيليون لمن تعود هذه الارض.ولكان الامر نشيدا يوميا من أناشيد الحرية... بالأقدام، أبلغ تأثيرا من الصواريخ. ولكن الأحرار هنا، بقلة الأحرار هناك! ولا تخطئ لسنا بحاجة الي جماهير. نحن بحاجة الى أدلاء يدلون الجماهير على الطريق الى الحرية، الى مناضلين يقيمون الدليل بزهدهم، على أنهم أحرار، يترفعون في ما بينهم عن كل اختلاف، يركزون أنظارهم على عدوهم وحده، ويضعون الحق نصب العين، لا شيء سواه، ولا يطلبون نصفه، بل أقصاه! فالحقّ لا يكون حقا بالأنصاف. ولسنا بحاجة الى «حركة جماهير» عفوية تصنع لنا الثورات، نحن بحاجة الى حركة وطنية بصيرة، تحتكم الى الضمائر، وتنتصر للحق، ولا تساوم عليه، فتقدم للجماهير المثال، وتقودها بقيمه. كل عبقرية الثورة التحررية العظمى في الجزائر تكمن في أنها عرفت كيف ترسم الحد بين الحق والباطل، وعرفت كيف تتمسك به حتى النهاية، فانتصر الحقّ، وزهق الباطل. وفي المسافة بين الحق والباطل، كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقول: «واللّه، لو قال الفرنسيون لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه لما قلتها». وهو رجل دين أمضى عمره يردّد: لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه. فحتى لو كان الفرنسيون قد رفعوا راية «لا إله إلا اللّه» على رؤوس الأشهاد، فما كان ذلك ليعفيهم من أنهم غزاة، فكتبت لهم الهزيمة. بصيرة زهد، حرة، مستقيمة، عنيدة، هي ما كان يقف وراء الأحرار في الجزائر. وهي ما كان رباطهم، حتى هرب الغزاة. تذكر هذا، واسأل نفسك: مَنْ هم الذين يقولون الشيء نفسه للاحتلال في العراق أو فلسطين، وستعرف كم يوجد لديك من أحرار! لا يقلقني أن يظهر عملاء الاحتلال وكأنهم حقيقة مطلقة، لأنهم زبد. ولكن يقلقني أن يتصرف الأحرار، حيال قضيتهم، وكأنهم زبد، بلا بصيرة وبلا رباط. كان المهاتما غاندي يقول: «حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي تخشاه». فهل حقّقنا «انجازات عظيمة» بالصاروخ والقذيفة والمتفجرة؟ شكرا، لقد كان ذلك مفيدا، إلا أنه لم يكفل النصر بعد. مقاتلون يضعون الحق نصب أعينهم، لا يقدمون تنازلات للباطل، لا يفتحون الباب مواربا لعدوهم، ولا يتسلّلون إليه من الشباك. أولئك هم الأحرار. إقرأ من فصول التاريخ ما شئت، وسترى أن معارك الحرية الكبرى لا تقبل أنصاف الحلول، ولا أنصاف المقاتلين، ولا أنصاف الأحرار. وأن تمسك بالعروة الوثقى، ذلك هو الرباط، وذلك ما يخشاه الغزاة.