تبعا لآخر احصائيات ديوان المياه المعدنية، فإن 3.6 ملايين شخص يرتادون وحدات الاستشفاء بالمياه المعدنية، و170 ألفا أغلبهم من الأجانب يتوجهون إلى مراكز العلاج بمياه البحر، وهي الحقائق التي تفتح الباب واسعا للسياحة التونسية لتخرج من أزمة تصنيفها التقليدي الذي وقعت فيه منذ عقود أي سياحة الشمس والنزل والبحر، وهو التصنيف الذي جعل العديد من الوحدات السياحية التونسية تتورط في «أسعار تنافسية» ثم تعمل بالخسارة لضراوة المنافسة في حوض المتوسط وتتالي الأزمات العالمية المختلفة. إن المزيد من التعمق في حقائق السياحة العلاجية في تونس والإمكانات الضخمة المتوفرة لها يمكن أن يفتح الباب واسعا أمام تغيير كبير في تعريف السياحة التونسية وإخراجها من مزاج وكالات الأسفار العالمية ومن ورطة التخفيض في الأسعار لجلب سياح لا يتجاوز معدل إنفاقهم اليومي بضعة دنانير. امكانيات لا توجد ولاية في تونس ليس فيها ينابيع مياه معدنية، ويكفي أن نذكر أن ولاية تطاوين التي تصنف على أنها ولاية صحراوية جافة تضم خمسة ينابيع ماء معدني، وفي اثنين منها تتجاوز حرارة الماء 45 درجة. وعلى امتداد البلاد التونسية، أحصى خبراء ديوان المياه المعدنية 95 منبع ماء معدني ثابت، منها 65 منبعا ذات مياه حارة فعلا. كما تحظى البلاد التونسية بتاريخ طويل وثري في مجال العلاج بالمياه المعدنية، حتى أن العشرات من هذه الينابيع ظلت تختص عبر القرون بعلاج أمراض معينة، مثل أمراض البرد والجلد والحساسية والجهاز التنفسي في عين دراهم، وحتى الجهاز الهضمي مثل عيون قربص، التي تستعمل لتنظيف المعدة والأمعاء لحظات بعد شربها. وفي غياب دراسات علمية سريرية، فقد توارث التونسيون عبر القرون معتقدات تربط العلاج في تلك العيون الحارة بكرامات الأولياء الصالحين، إلى أن اهتمت الكفاءات العلمية التونسية بهذا الأمر، حيث أصبحت لدينا دراسات علمية سريرية حول فوائد الينابيع الحارة في عين دراهم وفي قربص مثلا، في انتظار دراسات لبقية المناطق. وفي الأعوام الأخيرة، مكنت الدراسات التي أجراها خبراء ديوان المياه المعدنية من إجراء مسح شامل لهذه الثروات الطبيعية، وخصوصا إجراء دراسات ذات جدوى حول إمكانيات استغلالها اقتصاديا ليس فقط بإنشاء حمامات معدنية جديدة، بل خصوصا ببعث أقطاب سياحية تقوم على العلاج بالمياه المعدنية ومياه البحر، وهو ما مكن الدولة من تحيين وإصدار القوانين التي تشجع على الاستثمار في هذا المجال. وبعض هذه الأقطاب الذي أخذ طريقه نحو بداية الإنجاز يبشر بإمكانيات ضخمة على مستوى التشغيل والمردودية التجارية. أقطاب يتحدث السيد فرج الدواس، مدير ديوان المياه المعدنية بكثير من الثقة عن مستقبل جهة قربص التي تعطلت فيها السياحة الاستشفائية طويلا بسبب انهيار الطريق القديمة إلى القرية. «الحل لجهة قربص لن يكون مجرد طريق جديدة، بل في تهيئة المنطقة كلها وبعث قطب ضخم للسياحة العلاجية» كما يقول للشروق موضحا. سوف تشمل عملية التهيئة 1300 هكتار على امتداد الساحل الصخري حيث ستقام الكثير من الوحدات العلاجية. أما في الخبايات على طريق قابسقبلي، في حامة قابس، فسوف تكون فخر السياحة العلاجية في تونس: على مساحة 142 هكتارا من العقارات سوف تنشأ مدينة متكاملة حول العلاج بالمياه المعدنية الحارة، وسوف تضم هذه المدينة كل شيء من الإقامات الفاخرة إلى ملعب الصولجان، مرورا بقاعات المؤتمرات وقبل ذلك الوحدات الصحية العلاجية التي سوف تكون مدعمة بحقائق الفوائد الطبية للعلاج بمثل هذا الماء. وينتظر أن تبلغ الاستثمارات في هذا المشروع 18 مليون دينار، فيما سوف تصل طاقة استيعاب المحطة إلى أربعة آلاف سرير مع إمكانية استقبال ألف زائر يوميا. أما في الشمال، فإن القطب المنتظر حول ينابيع الماء الحار في حمام بنت الجديدي على بعد 15 كلم عن مدينة الحمامات سوف تمثل رمزا آخر من رموز السياحة العلاجية في تونس على مساحة 140 هكتارا منها حوالي 20 هكتارا للمساحات الخضراء أي أن هذا المشروع سوف يكون عند اكتمال كل مراحله قطبا سياحيا علاجيا ضخما. وفي الشمال الغربي، انطلقت عدة مشاريع متوسطة مثل بني مطير وخصوصا حمام ملاق التاريخي الذي بني في عهد الإمبراطور الروماني «أدريان» منذ 18 قرنا، ويستعد اليوم لاحتضان محطة استشفاء عصرية. فرص وتشغيل يقول الدكتور وحيد البادري، وهو طبيب تونسي له إطلاع واسع ومساهمة في عدة دراسات حول السياحة العلاجية إن تونس تمتلك المقومات الضرورية لتصبح مقصدا شهيرا في حوض المتوسط على الأقل في العلاج بالمياه المعدنية. درس الأستاذ البادري في الاتحاد السوفياتي سابقا حيث توجد تقاليد عريقة في العلاج بالمياه المعدنية الحارة. يقول ل«الشروق»: «غير أنهم هناك يفتقدون ما لدينا في تونس من طقس معتدل ومناخ اجتماعي ممتاز»، ويوضح الدكتور أن أغلب بلدان الشمال التي تمتلك تقاليد في العلاج بالمياه المعدنية تعاني من نقص كبير من الشمس، كما أن السائح فيها يعيش منعزلا في محطات العلاج، على عكس بلادنا التي توفر العلاج والطقس الجميل والحياة الاجتماعية المنفتحة. أما الأستاذ فرج الدواس فيتوقع أن يتطور عدد حرفاء المياه المعدنية في تونس من 3.6 ملايين حاليا إلى 7 ملايين في 2016، وأن يزداد حرفاء العلاج بمياه البحر بما يزيد عن 60 ألف شخص. «غير أن الأهم هو ما يوفره هذا المجال من فرص تشغيل، لا تقل عن 5 آلاف موطن شغل أغلبها للإطارات الطبية وشبه الطبية، كما أن السائح الذي يقصد هذه المراكز يتميز بقدرة عالية على الإنفاق، يضاف إلى ذلك الصناعات شبه الطبية التي ترافق مثل هذا العلاج أي المواد الطبيعية التي تباع معه وهي مجال واسع للاستثمار والتشغيل وحتى للتصدير». ورغم عدم توفر دراسات دقيقة عن معدل إنفاق حريف مثل هذه المراكز، فإن العديد من المصادر تكشف أن سياحا من دول الجوار ينفقون في قربص بمعدل 1200 دينار أسبوعيا للشخص، وهو ما قد يعطي فكرة أولية ولو بسيطة عن إمكانات هذا القطاع.