«زنيم مرّة أخرى»هو عنوان الرواية الجديدة لفوزي الديماسي الصادرة عن دار البراق للطباعة والنشر والتوزيع. وفوزي الديماسي عرفناه ناقدا وكاتبا مثابرا له مقارباته وهو من ألمع أصوات الجيل الجديد بما يطرحه في كتاباته من أسئلة عن الشعر والابداع الأدبي بالتوازي مع نصوصه الروائية. «الشروق» التقته في هذا الحوار. كيف تجد نفسك بين الرواية والنقد؟ بين النقد والرواية خيط فاصل واصل، كلاهما يعمل على رصد النقاط المعتّمة ليضيئها، ويكشف عن مواطن الجمال فيها، والرواية كنصّ سردي يمخر عباب الفكر والواقع معا، هو رحلة بحث عن المستقرّ حيث السكينة المعرفيّة، كما النقد الذي يعمل على تفكيك الأعمال الفنيّة، ويتجوّل بين أروقتها بعين فاحصة متيقّظة ليهيّئ للمتقبّل من بعد ذلك المداخل الآمنة للنصّ، اذن، فالمهمّة الموكولة للرواية وللنقد متشابكة، متشابهة، لا تنافر بينها ولا فتور، ثمّ من زاوية أخرى، أليس الواقع بمفهومه الحضاري والثقافي والسياسي الذي تنهل منه الرواية تضاريس جسدها، هو بدوره نصّ مفتوح ومتعدّد الشعاب، وعلى الرواية أن تمشي بين دروبه بحثا عن نصّ منشود بنفس الوسائل والطرق التي ينتهجها النقد، لذلك لا أجد فرقا يذكر بين هذا الفنّ وذاك، أي فنّ الرواية وفنّ النقد، وكلاهما يشترك مع الآخر في منهج معاشرة الأشياء والبحث عن مواطن السكينة فيها. اشتهرت بالمقالات المشاكسة ألا ترى أن الخروج عن السرب هو قدر الشعراء والكتاب؟ لم أعتنق منهج « خالف تعرف «، ولا أتكلّف في صنع الأشياء، والقلم عندي كما المرآة لا تعكس الوهم أو السراب، لا أخاف لومة لائم في الكتابة، اذ الكتابة عندي ليست ترفا أو تسلية أو زينة أو تفاخرا، وانّما هي موقف ورؤية، تحكي الواقع وتحاكيه، وتحاول أن تنيره، بعيدا عن ثقافة اثارة القضايا اثارة مجّانيّة من أجل جلب الانتباه ولفت الأنظار، ذلك هو قدر الكاتب أن يكون خارج السرب، ألم يقل الفيلسوف فرويد بأنّ الكاتب يعيش على حافة العصاب، وذلك لتقاطع الحلم والواقع فيه، وتقاطع المنشود والموجود في ذهنه، ثمّ انّ ماهية الكاتب وجوهره هو أن يكون خارج السرب بالضرورة على مذهب قول الفيلسوف «ألان» «الفلسفة هي أن نقول لا»، فلو كان أبو القاسم الشابي داخل السرب، منسجما مع واقعه وبني جلدته، قانعا، خاضعا، مستسلما، هل كنّا نعلن في ذلك الواقع ميلاد شاعر، قطعا لا، وعلى رأي أستاذنا محمود المسعدي «الأدب مأساة أو لا يكون» فالمأساة بمفهومها الميكروفيزيائي هي القادح لولادة النصّ والمقال والقصيدة، واذا سلّمنا جدلا بأنّ العيش مع السرب أسلم، فستسقط بذلك شروط الكتابة ودوافعها، فولادة الكتّاب والفنّانين لا تكون الاّ في مكان مختلف قصيّ خارج السرب، يطلّ على السرب ولا يذوب فيه، وصفة المشاكس التي التصقت بمقالاتي، هي صفة مغلوطة، فهل يعدّ الافصاح عن الرأي بحريّة مشاكسة؟ جيلك هل تنتمي االيه؟ كلّ الأجيال جيلي، وهويّتي القوميّة والقطريّة هي التي بها أعرف واليها انتسب، ثمّ انّ الكتابة الروائيّة كما الفلسفة تقوم على السؤال، والسؤال والدهشة على حدّ تعبير الفيلسوف هايدغار يقطع مع التّحقيب، لذلك أرى نفسي بين كلّ الأجيال، وليس بين جيل بعينه، طالما أنّنا نشترك في نفس الأسئلة الحارقة هل تعتقد أن هناك أجيالا في الشعر التونسي؟ الشعر في تونس كما في بقية الأقطار العربيّة، يصنّف حسب المدارس لا حسب الأجيال، فيمكن أن نقف على الفرق بين المدارس، وهذا ما نلمسه من خلال التعاطي مع النّصوص، أمّا تصنيف الشعر حسب الأجيال فتلك مسألة فيها نظر، اذ الأسئلة بمفهومها الفلسفي لدى آمال موسى هي نفسها عند جميلة الماجري، وأسئلة عبد الفتاح بن حمودة نجد لها صدى في كتابات محمّد الغزّي، وجيل التسعينات يعيش نفس المحنة الفكرية والحضارية والفلسفية والجماليّة لدى جيل الثمانينات مع اختلاف طفيف في المباني لا المعاني، ولا فرق بين هذا وذاك الاّ بالوعاء الذي يحتضن هذه الرؤى والأفكار والأحاسيس كتبت الرواية دون المرور بالقصة القصيرة ،هل تعتبر نفسك روائيا أولا؟ حين أراد هايدغار الوقوف على حدّ الفلسفة وحدوده، تعدّدت أمامه السبل ،واختلطت عليه المفاهيم، فخرج بنتيجة مفادها بأنّ كلّ ما ينتمي لحقل العلوم الانسانيّة عصيّ على التسييج، فكانت التعريفات التي يمكن أن يخرج بها على الناس، بأنّ الفلسفة هي أن نتفلسف، أي يمكن أن نقف على حدّ الشيء وحدوده بممارسته، ومن هذه الزاوية، لا يمكن أن أصنّف نفسي في خانة الروائييّن، فذلك من مهمّة النقد والنقّاد، ودوري أنا في هذا الباب، هو أن أحاول أن أكون، وتحضرني قولة لتوفيق الحكيم أعتبرها نهجي في الكتابة والحياة « ليس المهمّ أن نفلح ولكن المهمّ أن نكدح « فان بلغت درجة من النضج السردي، فسأكون في زمرة الروائيين، وان أخفقت فعليّ أن أحاول مرّة ومرّة، حتّى أدرك مطلبي بعيدا عن حديث السيزيفيّة نسبة لسيزيف.. وكما أسلفنا، فمادامت الفلسفة هي ممارسة التفلسف بعيدا عن التسييج، كذلك الرواية عندي هي الكتابة السرديّة المتواصلة والباحثة عن مستقرّ حتى تدرك المرافئ ما هو تقييمك للمشهد الشعري في تونس ؟ لنا في تونس أصوات جيّدة، استطاعت أن تنحت لها مكانا تحت شمس الأدب العربي الحديث، ولقد حصلت عديد النصوص الشعريّة التونسيّة على عديد الجوائز الأدبية العربيّة، وهذه قرينة على رسوخ أقدام الشعر التونسي في أرض النّظم، فشعراؤنا لهم أدوات الشعر وأسباب ابداعه، كما بقية الشعراء العرب، الذين استطاعوا أن يخرجوا بنصوصهم من حدودهم القطريّة، وكذلك شعراؤنا الذين سافرت نصوصهم في كل الاتجاهات، وأثارت حولها الأقلام، وأسالت الحبر، ورسّخت في أذهان المتقبّلين العرب بأنّ تونس تزخر بالطاقات الشعريّة والأصوات الجيّدة والروائي والقصصي؟ بالنسبة للقصة والرواية، مازال الركب متخلّفا الى حدّ مّا في المستوى العربي، مقارنة بما بلغه الشعر التونسي من شهرة في الآفاق، ولم يتقدّم نحو الصفوف الأولى في المشهد السردي القومي، ولولا الحبيب السالمي وابراهيم درغوثي ومحمد علي اليوسفي، لما وجدنا للسرد التونسي ذكرا خارج حدود الوطن، وذلك راجع لسببين اثنين، نختزلهما في مسألة الماكينة الاعلاميّة والنشر، فليس لدينا في تونس ماكينة اعلاميّة تسوّق نصوصنا خارج الحدود، مثل ما يحصل اليوم في بعض الأقطار العربية الأخرى على غرار لبنان والعراق ومصر والمغرب، ثمّ انّ المجهود الفردي الذي يقوم به كلّ كاتب على حدة لتسويق صورة مشرقة عن السرد غير كافية للتعريف بالمشهد السردي التونسي في كليّته وهنا يكمن دور المؤسّسات على غرار اتحاد الكتّاب التونسيين. ولكن الاتحاد حاله كحال النصوص هو نفسه في حاجة لمن يأخذ بيده، اذ كان من المفروض أن يسعى من خلال الزيارات المتبادلة مع بقيّة الاتحادات العربيّة، ومن خلال موقعه الالكتروني الى نشر النصوص التونسية الجيّدة ولكن الاخوانيّات والمجاملات أرهقت الاتحاد وبالتالي انتشار النصّ. كيف تقيّم مساهمة الجامعيين في الحياة الثقافية ؟ شرعت الجامعة التونسية في فتح أبوابها أمام النصّ التونسي، وبدأنا نرى هنا وهناك كتبا ودراسات تعرّف بالكتابات التونسيّة، على غرار ما كتبه محمد صالح بن عمر أو بوراوي عجينة أو خالد الغريبي أو نزار شقرون أو محمّد الغزّي. اولكن للأمانة هناك من الجامعيين كذلك من أساء للمشهد الابداعي التونسي بمجاملاته واعتماده على منهجيّة »ادخلوها بسلام آمنين» في أعماله وتراجمه ومقدّماته للدواوين الشعريّة، ففسح بذلك المجال لكلّ من هبّ ودبّ واجمالا بقيت جامعاتنا تعيش على وقع الأمس وكأنها مؤسّسات محنّطة.