رأيت في ما رأيت كسوف الشمس، وخسوف القمر، وسمعت الكثير الكثير عن اختفاء الكواكب وذوبان الأجرام السماوية، المرئية منها والخافية. وقرأت ما قرأت عن انصهار الأشهُب فجأة. واستمعت الى خُطب المحلّلين والحكّائين والوصّافين لظواهر الأرض والسماء التي أفلَ سحرُها بسحر العلم، ونضب معينها الخرافي بتدفق المعارف وتكدّس المناظير والتليسكوبات وأدوات المتابعة والتسجيل الحيني.. ولكن هل لي بمجيب عن السؤال السرمديّ: لماذا تنكسفُ الشمس والأرض والقمر والنجوم والكائنات كلها مرّة أم مرّات على الأقل في مسارها؟ أين العلامة وأين الجهبذ وأين عبقريّ الأزمنة الذي سيسلّمني خبرا أوليا ونهائيا قبل أن أنخسف وأنكسف وأنصرف بدوري الى جنان الورد أو جحيم الخلد، فينير حيرتي أمام انشغال الدنيا وكلّ العاملين ببشرها وحجرها وبحارها وغازاتها في دورة الخسوف والكسوف والعزوف والذّهاب والغياب واليباب والمرور والنّفور والشغور والتكلّس والتقلّص والتملّص والانحسار والاختصار والاندثار..؟ وهذه خاتمة الأسئلة، قصّة خسوف زاهر ابن عبد شمس ابن طالب الأهوازي، صاحب رقعة «الزّبد يذهبُ جفاء» وكاتب المسودّة الأولى ل«علمتَ شيئا وانكسفت عنك أشياء»: كان زاهر منذ سنين خلت، وأنّى حدثته النجمة الأمّارة، يهمّ بقلمه فيهمّ به، فيتناظران، فيتسارّان، فيتعانقان، حتى يهلّ الغيض. وكان ساعة بعد ساعة ينزوي في عرين بُسُطُهُ كنوزُ الأولين، وجدرانه أسفار المحدثين، وسقفه ألقُ الأحياء، فينهل ما تيسّر ولا يترك أمواج الفيْض إلاّ أن تزوغ مقلته، أو يفتلّ قلبه. وكان يعانده الشوق الى ذاته، فيحملق في المرآة حتى يسرّ بسروره الى «نرسيس»، ويتجاذبان أطراف الزهو والجذل. أوى يوما الى إيوانه صبحا، وهمّ بقلمه فأعرض عنه، فانتزعه وصلبه على الصفيح الأبيض، فلم ينبس ببنت مداد. نزل السّلم نحو العرين ورأى مهجته تجثو متهالكة، ولمّا بلغ الدرك الأسفل، جثا القلب ثم اللسان ثم اليد اليمنى. مدّ يسراه الى الرّقاع المرصوفة، فهاله الفراغ الأبيض، وإذا ببقايا حروف تساقط ترابا. مرّ أمام المرآة وأمعن النظر، فصعقه الخُواء. تنفّس نفسا عميقا، كأنه الأخير وهو يمسح بعض الغبار عن الخوان: خ س و ف. جمع ما يجمعه المدفونُ حيّا من برْزخه وزحف كالمسخ صوب البيْداء.