على امتداد أكثر من نصف قرن ظلّت السيدة فيروز صاحبة الصوت الملائكي الشفاف مطربة فنانة مختلفة عن الآخرين بشكل لافت وغير مسبوق وبرغم معايشتها لأجيال فنية مختلفة ظلّت نقطة مضيئة ووضّاءة سواء مع جيل عمالقة الفن أو حتى في زمن الرداءة الفنية وسلاطين الطرب وأمراؤه الذين اكتفوا بالألقاب الفنية دون نحت مسيرة تستطيع أن تترك بصمة لدى الذائقة. لكن فيروز وحدها ظلّت مختلفة ومتألقة على الدوام لأنها سيدة أصيلة حافظت على بريقها بأعمالها الفنية القديمة الأنيقة وحتى الجديدة القليلة إذ استطاعت مؤخرا أن تحصد أكثر من 700 ألف صوت عبر «صفحات أحباء» عبر «الفايس بوك» لتتربع دائما ومجددا في قلوب أحباء الفن الراقي رغم المنافسة التي حسب رأيي لا تجوز مع صوت كصوت السيدة فيروز من أشباه مطربين وأنصاف فنانين كرّسوا كل جهدهم لأجل العرابن والمعارك الفنية الوهمية ولكن المتلقي الحقيقي والمتابع الذواق للفن الراقي لا بدّ له اليوم من صوت ملائكي نظيف شفاف صادق وطاهر لتطهير الأذن من شوائب الفن الهابط ونشاز المتطفلين على الساحة الفنية وها هو اختيار فيروز جاء ليؤكد أن الفن الأصيل لا يموت بل لازال حيّا متجددا متجذّرا في أعماق النفوس التي تربّت على هذا الصوت الذي يدغدغنا كل صباح فيبعث فينا الأمل بيوم جديد ويعيد داخلنا تأثيث ذلك الحلم الوردي الذي كلما تلبّد بغبار مشاغل الحياة اليومية إلا وأيقظه ذلك الصوت المخملي المحمّل بعطر الجنوب وشموخ جبل لبنان مسقط رأس فنانة العرب الأولى حتى الآن. ففي بداية الخمسينات عثر الأخوان رحباني على لؤلؤة فنية لا تقدّر بثمن وهي فتاة صغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها أحضرها صديق لهما لتغنّي في فرقة «فليفل» كانت تنشط في الجوقات المدرسية وحين قدّمها الأخوان رحباني الي لجنة الاستماع التي تضمّ حليم الرومي كانت بالنسبة لهم اكتشافا عظيما وظلّوا يبحثون لها عن اسم فنّي يعوض «نهاد حدّاد» وهو الاسم الأصلي لتلك الزهرة الجبلية فاختار لها حليم الرومي اسم «فيروز» فأصبحت لؤلؤة إذاعة لبنان تزيّن البرامج وينبعث صوتها عبر الأثير نقيّا عذبا جديدا فالتفّ حولها الملحن عاصي الرحباني وشقيقه منصور اللذان صاغا لها من الأغاني ما يناسب حنجرتها الذهبية وصوتها المخمليّ الذي لن تجده سوى في حفيف الأغصان المتشابكة وخرير السواقي وهمسات نسائم الصباح والمساء مع إشراقة الشمس الدافئة وإطلالة القمر البهيّ صوت حالم يطرق أعماق الروح ويجتثّ الأحزان الصامتة من القلوب الرقيقة المتعبة وها هي فيروز على امتداد أكثر من 60 سنة تغنّي لنا وتغنّي بدلا عنا لكي يبقى ذلك السرّ في صوتها غامضا بحضورها الركحيّ المختلف وصمتها الثرثار على خشبة المسرح وهي تؤدّي وتمثل وترقص أحيانا رقصا يتناغم مع وقار يسرح بالمتلقّي الى دنيا الخيال لتشعرنا بالفرح والطمأنينة والهدوء والسلام فكانت انطلاقة السيدة فيروز بأغنية «عتاب» لتأخذ الثالوث الفني الجديد أقصد فيروز والرحابنة في رحلة فنية ملحمية جديدة من لبنان الى الوطن العربي ثم العالم الرّحب الذي صفّق لهذا الصوت المملوء بالانسانية لتتراوح تجربتها الفنية العميقة بين الحلّة الشعبية من خلال الموروث الشعبي اللبناني والحلّة الطربية بأداء قصائد رقيقة تنسجم مع الصوت الملائكي مثل رائعتها «عروس المدائن» وأحيانا أخرى ظهر صوتها بحلّة غربية عالمية ولا غرابة فإن صوت فيروز ينسجم مع كل إيقاع وكل لون وكل كلمة حتى وإن كانت معرّبة فتبدأ روائعها الخالدة من مهرجانات بعلبك لتنشر تراث بلادها على صعيد سياحي كبير ضمن باقات في شكل أوبيراتات متكاملة قدّمتها فيروز على مسرح بعلبك وحتى مواضيع أغانيها فقد تمرّدت على الشكل البكائي الكلاسيكي في الحب والغزل بل جاءت كلها بروح جديدة بسيطة ذات صور جميلة ومواضيع طريفة لطيفة ولكنها عميقة عمق صوت فيروز وألحان الرحابي فغنّت للمقهى والشتاء وطير الوروار والطاحونة والصيف والسيارة و«الستّ» والناس والقمر والطيارة و«كفر حالا» والعنبيّة وغيرها من تلك الأغاني الخالدة التي لا تزال حتى اليوم ثابتة صامدة منسجمة مع إيقاع العصر الذي كلّما تغيّر وتحوّل ظلّ صوت سيّدة الصباح والمساء ثابتا في موقعه لا تزحزحه الأعاصير والأنواء.