بعد أكثر من نصف ساعة من المناورات الباسلة على الطريق السريعة الجنوبية للعاصمة، لم نقطع سوى بضعة كيلومترات وكان واضحا أن وسط العاصمة ما يزال بعيد المنال وأن أمامنا المزيد من المناورات والصدامات وسماع العبارات الحادة التي تكشف عن هشاشة شخصية التونسي إزاء التوتر وحالات الانتظار. حدث ذلك عند الساعة الثامنة من صبيحة يوم الاثنين الماضي على الطريق من ضاحية المروج إلى وسط العاصمة، حيث اكتشفنا ازدحاما مروريا خانقا: تحولت الطريق ذات ثلاثة أروقة في الأصل إلى ستة صفوف فوضوية من السيارات تتقاتل لافتكاك منفذ نحو الأمام. سواق كثيرون يكشفون عن انتهازية نادرة ويسلكون الحافة الترابية للالتفاف على الصفوف. كثيرا ما نحس بشظايا فوانيس الإضاءة تحت العجلات من مخلفات اصطدامات سابقة. كل أشكال المجاوزة تصبح مباحة ومناورات «ذيل السمكة» تقع من كل جانب تتلوها شتائم بذيئة يعاقب القانون على نشرها هنا. تتقدم السيارات ببطء شديد، حتى أصبح بإمكان السواق أن يتبادلوا الحديث عن سر الأزمة، أما أكثر عبارة سمعتها ذلك الصباح فهي «يا بهيم». أحد سواق سيارات الأجرة قال لنا إن الازدحام يبدأ من ضواحي الزهراء، وأن ذلك عائد إلى أشغال لم يعلن عنها أحد على جسر الجمهورية. قال لنا كهل يقود سيارة حكومية فاخرة: «كان عليهم أن يعلنوا عن هذه الأشغال في الإذاعات أو بلافتات على الطريق، ليجنبونا هذا الوضع». وقد ظلت سياراتنا تراوح مكانها بما سمح لنا بمزيد الحوار فقال هذا الكهل: «يجب أن تقام مثل هذه الأشغال ليلا، خصوصا وأن منطقة الجمهورية ليست سكنية». لما اجتزنا جسر المروج عند مستوى مستشفى الحروق البليغة، اكتشفنا ما زاد في حدة الأزمة: سيارة ضخمة رباعية الدفع تعطبت في قلب الطريق، حاول سائق متهور مجاوزتها من اليمين دون إشارة ضوئية فصدم بمقدمة سيارته سيارة عائلية قادمة من خلفه على مستوى الباب الثاني حيث تركب امرأة أخذت تولول في الحين. لحسن الحظ كانت «الفجعة» أكثر من الخسائر المادية: مجرد احتكاك على الطولة فيما تصاعدت منبهات السيارات من كل الجهات لاستعجال السائقين. تستمر الفوضى حتى مستوى محول الكبارية حيث يحدث صراع حقيقي على الرواقين الوحيدين للنفاذ نحو جسر الجمهورية. عونا أمن يراقبان بقلق ما يحدث ويحاولان بما أمكن إجبار السواق على التزام الهدوء والنظام. لكن الواقع أن أغلب السواق ذلك الصباح قد فقدوا أعصابهم وقدرتهم على الصبر لينفتح المجال على الفوضى و«البهامة» والتحديات الجنونية في السياقة. قال لي صديق جامعي متخصص في علم الاجتماع فيما بعد: «التونسي ليس أسوأ من غيره، لكن مثل تلك الأوضاع تحوله بسرعة إلى شخص عدواني وأناني قادر على اقتراف أي شيء لأجل مصلحته الضيقة». بدا لنا في آخر لحظة أن نغامر بالدخول إلى وسط العاصمة من طريق باب عليوة، فهذا أفضل من أن نصاب بالاكتئاب صباحا ونحن نعاني من الانتظار والتوتر على هذه الطريق. أغلب السيارات التي تدخل من باب عليوة هي سيارات مهنية: شاحنات بضائع تتجه إلى المنصف باي ومتاجر الميكانيك، حافلات، سيارات أجرة ونقل جماعي. وهي في الواقع عربات يصعب التفاوض معها على الطريق الضيقة. ومنذ أن دخلنا تحت جسر قرطاج اكتشفنا حقيقة الجحيم المروري الذي تردينا فيه، فقد كنا نتقدم قليلا لنقف طويلا. اكتشفنا أيضا استعداد التونسي لاستنباط طرق انتهازية كل لحظة للمرور قبل غيره: الصعود فوق الرصيف، الدخول في الاتجاه الممنوع، تجاهل قواعد الأولوية وغيرها مما قد ينتهى بما لا يحمد عقباه. سمح لنا الوقت الطويل الذي قضيناه على طريق المنصف باي بتأمل الوجوه السيئة لهذا الوضع: كمية المحروقات المضاعفة التي تستهلكها السيارات في الازدحام المروري واهتراء قطع الغيار قبل أوانها، الوقت الثمين الذي يفقده الناس على الطريق، حيث يمكننا أن نتخيل آلاف الموظفين في الدولة يصلون متأخرين إلى العمل فتتأخر معهم آلاف الملفات والقضايا والمصالح، التلوث الهوائي بسبب وجود مئات السيارات التي تنفث دخانها في نفس المكان. أي شيء دفع بنا إلى مثل هذا الجحيم المروري الذي يدفع أغلب الناس إلى فقدان الصواب والانتهازية والأنانية المفرطة ؟ هل هو النقص التاريخي في وسائل النقل العمومي ؟ ربما تكون الحقيقة المفزعة وهي أن العاصمة قد ضاقت بمن فيها وأن الازدحام اليومي قد أصبح حقيقة نهائية. وفي انتظار أن يعثر لنا جهابذة المرور وتخطيط المدن على حلول، أدعو كل السواق إلى التفكير في «المواضيع ذات الاهتمام المشترك» ليتناقشوا فيها أثناء الانتظار على الطريق بدل تبادل الشتائم.