... نجحت المرحلة الأولى من خطة هروب مزالي إلى الجزائر، التي هندسها وساهم في تنفيذها صديقه الوفي ورفيق دربه رشيد عزوز (الضابط الأسبق بجيش الطيران ومهندس الأشغال العمومية)... حيث تنكر المرحوم محمد مزالي على شكل بائع مواد غذائية (عطّار) ب«بلوزة» رمادية وشاشية حمراء ونظارات شمسية بنية وركب إلى جانب رشيد عزوز على متن السيارة التي أقلتهما يوم 3 سبتمبر 1986 من سكرة إلى المنطقة الحدودية حمام بورقيبة ليتولى أحد أبناء الجهة فيما بعد تهريب مزالي إلى الجزائر مشيا على الأقدام عبر الحدود الغابية، بعد الإتفاق معه مسبقا ودون إعلامه بأن الأمر يتعلق بمزالي، لكن المهرب اكتشف فجأة أن المعني بالتهريب هو مزالي فتغير موقفه... وكشف رشيد عزوز في الكتاب الذي أصدره مؤخرا «محمد مزالي، صداقة دفينة وإغراقات سياسية» كيف أن مزالي قرر دون رجعة، الهروب خفية من الوطن بعد إقالته من منصبه كوزير أول وتجميده سياسيا ومنعه من السفر بطريقة شرعية وخاصة بعد أن علم بأن بورقيبة قرر شنقه... وهو ما تعرضنا له في الحلقات الثلاثة السابقة من هذه السلسلة... وفي هذه الحلقة الرابعة، نواصل كشف بقية الحقائق المثيرة لليلة هروب مزالي كما عاشها معه رشيد عزوز وكما أوردها في كتابه الصادر مؤخرا، وخاصة مآل خطة الهروب بعد أن تفطن الشاب «الغويبي»، القاطن على الحدود التونسيةالجزائرية والذي إتفق معه عزوز مسبقا على تنفيذ العملية أن الأمر يتعلق بتهريب مزالي... ليس مسلّحا! عندما غادر مزالي وعزوز والشاب «الغويبي» منزل هذا الأخير في حدود الساعة الخامسة من مساء 3 سبتمبر على متن السيارة في إتجاه المنطقة الحدودية الغابية التي سيتسرب منها مزالي متنكرا نحو الجزائر، نزع مزالي فجأة، في تصرف غير مدروس، نظاراته الشمسية بعد النزول من السيارة، فبانت ملامح وجهه وتعرف إليه الغويبي، فصاح «سي محمد مزالي» ثم تراجع إلى الوراء وحاول الهروب قائلا «لا، لن أشارك في هذه العملية... خطر عليّ... سأدخل السجن حتما...» وبدا واضحا أنه سيعلم الحرس الوطني بالأمر... وفي لحظات، شعر كل من مزالي وعزّوز أن الوضعية باتت محرجة وخطرة وأن الخطة ستسقط في الماء... ويقول رشيد عزوز في كتابه «جريت وراء الغويبي وأمسكته بقوة» (للإشارة رشيد عزوز ضابط جيش طيران سابق ومتدرب وصاحب لياقة بدنية ممتازة بحكم ممارسته الرياضة بإستمرار مع مزالي) ويواصل عزوز «سيطرت على الشاب وطرحته أرضا ووضعت رجلي فوقه لمنعه من الحركة وتظاهرت باستلال سلاح من تحت ثيابي لإخافته، فأبدى شيئا من الإستسلام... في الأثناء لحق بنا مزالي لكنه واصل تصرفاته غير المدروسة وفي تصرف ضعيف وخوفا من تطورات أخرى أعلم الشاب بأني لست مسلحا حتى يهدأ ويطمئن...». ماذا تنتظر؟ اطمأن الشاب، لكنه في غفلة من الاثنين أمسك وهو ممدد أرضا حجارة كبيرة وحاول إلقاءها بقوة على وجه عزوز غير أن هذا الأخير اعترضها بيده فأصيب إصابة بليغة وجرت الدماء بغزارة ولو بلغت تلك الحجارة رأس عزوز فإنها قد تودي بحياته من فرط كبرها... ويقول عزوز أنه رغم ذلك لم يتخل عن الإمساك بالشاب وتوجه في الآن ذاته لمزالي قائلا بلهجة عصيبة بعد تصرفاته العشوائية «كفى.. ماذا تنتظر أنت الآن تقريبا على التراب الجزائري، واصل طريقك ولا تخف... قرية رمل السوق قريبة جدا من هنا». ورغم صعوبة الموقف والإمساك بالشاب، يذكر عزوز أنه سلم إلى مزالي مصباحا صغيرا كان معه وعصا قوية ودعاه إلى الإنصراف... طلاء الأظافر! يواصل رشيد عزوز الرواية المثيرة بالقول أن مزالي «وقف فعلا على خطورة الوضع، فأذعن لطلبي.. غير أنه تلخبط في الأثناء واستخرج من جيبه قارورة صغيرة لطلاء الأظافر (Vernis à ongles) وألحّ عليّ بشدّة لأسلّمها لإبنته! (وهو الطلاء الذي استعمله مزالي لإلصاق الشوارب الإصطناعية التي ساعدته على التنكر) وهو ما أثار استغرابي خاصة أني كنت في ذلك الوقت أصارع من أجل السيطرة على الشاب ولكن عبء مزالي الوحيد كان آنذاك قارورة طلاء الأظافر!» بعد ذلك، يقول عزوز، غادر مزالي المكان متسترا بظلمة بداية حلول الليل ونجح كما هو معلوم في الوصول إلى الجزائر... أما هو (عزوز) فواصل الإمساك بالشاب «الغويبي» لمدة حوالي ساعة حسب ما ورد في الكتاب وهو ما سمح لمزالي بمزيد التوغل في الغابة نحو الجزائر. نجاح الخطّة بعد ذلك «أفرج» رشيد عزوز عن الشاب وأمره بالعودة إلى منزله على قدميه وأعلمه بأنه لن يرافقه في السيارة التي جاءا على متنها إلى هناك.. وكان عزوز يعلم أن عودة الشاب إلى منطقته مشيا على الأقدام وتوجهه في ما بعد إلى منطقة حمام بورقيبة للإعلام عن الحادثة لدى الحرس الوطني ستكلفه وقتا طويلا في ذلك الليل (حوالي 12 كلم) لذلك تركه يذهب وحال سبيله ثم توجه هو نحو السيارة حيث كان في انتظاره «محمود الهادف» الذي كان قد رافقه ومزالي في الرحلة من تونس إلى ذلك المكان، والذي كان بجانب السيارة وقد رفع غطاء محركها ليوهم بأنها تعرضت عطب... ثم إنطلقا نحو تونس العاصمة بعد أن تأكدا من نجاح خطة الهروب... أما مزالي فكان آنذاك يجتاز الأودية والغابات الحدودية وقد روى مزالي تفاصيل دقيقة عن ذلك في كتابه «نصيبي من الحقيقة» وكيف تعرض إلى جروح بليغة بركبتيه وجبينه أفقدته دماء كثيرة واستعمل منديلا صغيرا لمسحها وبقي يحتفظ بالمنديل سنوات طويلة... وكيف اضطر لاجتياز واد مستوى المياه فيه حوالي نصف متر. وتحدث مزالي في كتابه أيضا كيف ساعدته لياقته البدنية الكبرى (كان يمارس الرياضة بانتظام) على تحمل المشي وتسلق الجبال والمشي في الغابات المظلمة بعد أن نزع ملابس التنكر في الغابة حتى بلغ أحد المنازل الجزائرية وطلب من صاحبها إيصاله إلى أقرب مركز أمن، فأوصله، بعد أن تعرف إليه، إلى ثكنة تابعة لحرس الحدود. كيف سيكون الأمر من الغد (4 سبتمبر) بالنسبة لرشيد عزوز؟ ذلك ما سنكتشفه في الحلقة القادمة؟.