٭ تونس «الشروق»: نجحت خطة «هروب» الوزير الأول الأسبق في عهد بورقيبة، المرحوم محمد مزالي، نحو الجزائر عبر الحدود الغابية المتاخمة لمنطقة عين دراهم، وهي الخطة التي أعدها وساهم في تنفيذها رفيق درب مزالي وصديقه المقرب رشيد عزوز الضابط السامي السابق بجيش الطيران ومهندس الأشغال العمومية. وفي كتابه الصادر مؤخرا.. «محمد مزالي، صداقة دفينة وانحرافات سياسية»، الذي تنشر «الشروق» بعض ما ورد فيه على حلقات، كشف عزوز جملة من الحقائق والتفاصيل المثيرة التي أحاطت بهروب مزالي.. وقد تعرّضنا في الحلقات الأربع الماضية إلى المعطيات التي أوردها «سي رشيد» حول ملابسات صداقته مع مزالي منذ 1968 عندما كان وزيرا للدفاع وصولا إلى عزله من خطته كوزير أول في جويلية 1986 وتجميده سياسيا ومنعه من السفر إلى الخارج بطريقة شرعية وتسليط مراقبة لصيقة على منزله وعلى تحركاته.. وهو ما دفع به إلى التفكير في الهروب خلسة، حتى ينجو من الخطر بعد أن بلغه أن بورقيبة قرر إعدامه، فكان أن هندس له صديقه رشيد عزوز خطة هروب عبر الحدود التونسيةالجزائرية، ونجحا في تنفيذها رغم ما أحاط بها من أحداث مثيرة تعرضنا لها في الحلقتين الماضيتين وشدد رشيد عزوز في كتابه على أن مزالي «غيّر» بعض الحقائق عند حديثه عن رحلة الهروب في كتابه «نصيبي من الحقيقة» وقلّل من شأن الدور الذي لعبه (عزوز) في مساعدته. وفي حلقة اليوم، يتحدث رشيد عزوز في كتابه عن تبعات هروب مزالي بعد أن بلغ الخبر إلى السلط الرسمية في البلاد في اليوم الموالي. انقضت حوالي ساعة على توغل محمد مزالي في الغابات المتاخمة لمنطقة حمام بورقيبة وعلى الحدود الجزائرية متسترا بظلمة ليلة 3 سبتمبر 1986 وطوال تلك الساعة كان عزوز يحكم السيطرة على الشاب المهرّب «الغريبي» الذي هدّد بإعلام الحرس عندما علم أن الأمر يتعلق بمزالي.. ثم أخلى سبيله وركب السيارة، التي تنقل عليها رفقة مزالي وصديق آخر رافقهما إلى هناك، وعاد أن تونس في الليلة نفسها دون أن يعرفا إن كان أمر هروب مزالي بلغ إلى مسامع السلط الأمنية أم لا. ويقول عزوز في كتابه «وصلنا إلى سكرة ودخلنا منزلي.. ولإزالة كل فرضيات إفشاء سرّ هروب مزالي، أدخلت محمود الهادف (سائق التاكسي) الذي رافقني في الرحلة إلى عين دراهم، أدخلته إلى احدى غرف منزلي المجهزة بحمام وبيت راحة وغير ذلك من التجهيزات الضرورية ثم أحكمت غلق بابها من الخارج وأنزلت الستائر الكهربائية على النوافذ (وهي ستائر لا يمكن فتحها لا الداخل ولا من الخارج).. وبعد ذلك جمعت بعض أدباشي المهمة داخل حقائب ووضعتها في الصندوق الخلفي للسيارة تأهبا للفرار المنتظر وأحرقت بعض الأوراق التي قد تكشف مساهمتي في هروب مزالي». وكأن شيئا لم يكن ! صباح 4 سبتمبر، توجه عزوز في حدود السابعة صباحا إلى ممارسة الرياضة في المركب الرياضي العسكري بباردو مع أصدقاء العادة (وزراء وأصدقاء مزالي) وكأن شيئا لم يكن.. غير أنه لاحظ في ذلك اليوم غياب محمد الصياح (وزير التجهيز) وصلاح مباركة (وزير المالية) عن المجموعة.. وكان حاضرا في الموعد محسن غديرة أحد الأصدقاء المقربين من عائلة مزالي. وسعيا من عزوز إلى تلبية طلب صديقه مزالي، سلم قارورة طلاء الأظافر (التي ألح مزالي وهو يغادر عزوز ليلة الهروب على ارجاعها إلى ابنته الصغرى بعد ان استعملها في إلصاق الشوارب الاصطناعية للتنكر)، سلمها الى محسن غديرة ليسلمها بدوره الى ابنة مزالي.. وبعد تردد، قبل غديرة بذلك ونفّذ توصية صديقه... «سي محمد». ابنه رفض مرافقته بعد انتهاء الحصة الرياضية توجّه رشيد عزوز مباشرة الى مطار تونسقرطاج وكان قد برمج السفر الى ذلك اليوم الى باريس لحضور اجتماع في منظمة «التعاون الدولي من أجل الطاقة الشمسية» التي كان نائب رئيسها الأول.. ويقول عزوز ان الرحلة كانت مكتظة بسبب عودة مواطنينا بالخارج اثر نهاية العطلة الصيفية... وكان عزوز قد اقتطع تذكرة ذهاب وإياب في الدرجة الأولى له ولإبنه نزار ليرافقه هو الآخر الى باريس (بعد حصوله على الباكالوريا) لمواصلة دراسته العليا في «السربون» بفرنسا... لكن نزار فضل الالتحاق به في الاسبوع الموالي، فتعانقا كثيرا في المطار وتوجه «سي رشيد» نحو مكاتب التسجيل بالمطار.. تأخر إقلاع الطائرة! صعد رشيد عزوز الطائرة وبدأت دقات قلبه تضرب بقوة... مرت عليه دقائق انتظار إقلاع الطائرة كالساعات مثلما ذكره في كتابه خاصة بعد تأخر الاقلاع ب 15 دقيقة... فقد اعتقد ان سبب التأخير هو التفطن اليه وأنه سيقع انزاله وكان في الأثناء يسترق النظر من نافذة الطائرة الى الخارج.. ويقول عزوز انه لا يتذكر كيف أغلقت أبواب الطائرة لا يتذكر شيئا عن التوصيات العادية للمضيّفات... وبمجرد ان تحرّكت الطائرة وأقلعت تنهّد بقوة من شدة ما أصابه من ضيق في صدره... وبعد اكثر من ساعتين حطّت الطائرة بباريس وغادر سي رشيد المطار ويكاد يطير من شدة الفرح على نجاحه في «الهروب» هو الآخر من تونس بعد «هروب» صديقه محمد مزالي.. واختار الإقامة في نزل «دوري» (DORE) بساحة «سان أوغيستان» بباريس.. إيقاف وتعذيب لم تدم راحة بال رشيد عزوز كثيرا في باريس.. إذ علم من الغد أن ابنه نزار اوقف من قبل الأمن رغم محاولته اللجوء الى منزل صديق العائلة بميتوال فيل الجنرال عبد الحميد الفهري الذي كان آنذاك قائد أركان جيش الطيران... ورغم محاولات الفهري المتعددة مع وزير الداخلية آنذاك للعفو عن نزار الذي لم تكن له اية يد في عملية هروب مزالي، إلا ان الأمن ألقى عليه القبض بتعليمات من منصور السخيري مدير الديوان الرئاسي آنذاك والذي كان حسب عزوز هو الحاكم الفعلي للبلاد بدل بورقيبة. وإلى جانب نزار تم إيقاف أحمد عزوز (شقيق سي رشيد وهو محام) وإبنه زياد وتعرّضوا جميعا للتعذيب قصد استنطاقهم حول مشاركتهم في خطة تهريب مزالي والحال انهم كانوا، على حدّ قول رشيد عزوز خاليي الذهن تماما من ذلك، وهو ما أثبته محاضر الأمن لكن المحكمة الابتدائية بتونس كان لها رأي آخر. وإضافة الى أفراد عائلة عزوز تم أيضا ايقاف محمود الهادف (الذي شارك مزالي وعزوز في الرحلة الى الحدود ليلة الهروب) وتعرض للتعذيب ثم السجن مدة عام... وكان المصير نفسه من نصيب مصطفى شقشوق (صاحب سيارة البيجو 204 التي نقلت مزالي على مسافة قصيرة من منزله الى منزل عزوز). كما تم أيضا إيقاف وتعذيب محسن غديرة الذي طلب منه عزوز إيصال قارورة طلاء الأظافر إلى ابنة مزالي (بعد ان استعملها والدها في إلصاق شوارب اصطناعية).. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحدّ، حيث أقيل الجنرال عبد الحميد الفهري (الذي لجأ لمنزله نزار ابن رشيد عزوز) من منصبه كقائد أركان جيش الطيران. وبعد ان علم رشيد عزوز بهذه الأخبار المؤلمة وهو في باريس، قرر التحرّك، من خلال الاتصال بصديقه الجنرال احمد نعمان ابن المناضلة شاذلية بوزقرو (وهي ابنة أخ الرئيس بورقيبة)، والذي كان في الآن نفسه مستشارا للمرأة الفاعلة آنذاك في القصر الرئاسي سعيدة ساسي... ووعده ببذل كل مجهوداته لمساعدته.