الحداثة من سمات الذات، أو على الأدق، الذات معنى جوهري للحداثة، هذا ما أضحى الإيمان به من خصائص المنازع النظرية الفنية الراهنة، حيث غدت الذات بمفاهيمها التفردية، من مياسم الفرادة الإبداعية المنتجة لأكثر الأشكال الفنية انفلاتا من هياكل الوعي المشترك والأنساق الذهنية الجاهزة مما أفضى بالذات إلى اكتساب قدرة فائقة على إنجاز ذاتيتها وتكريس تحرّرها النظري والإبداعي. الحداثة المعنيّة هنا، ليست فقط صيغة من صيغ التجاوز الزمني والسوسيولوجي لبنى وتراكمات السائد الثقافي بقدر ما هي القدرة على تجاوز هذا السائد في سياق يتحايث مع تحقيق السمة الإثباتية لكينونتها بين دهماء الذوات، فالحديث المبتكر اللامألوف هو ما يسمى تدقيقا وفق مفهوم حداثة الذات إبداعا. إن الإبداع الفني للذات هو ما يعيد لها ألق الحضور ووهج الوجود في العالم، حيث يكون الفن الإبداعي هو شكل حضورها الكينوني، فلحظة الإبداع هي لحظة وجود حر صاف، مؤتلق للذات في العالم يجعلها شاخصة بشكل مباشر مع دقائق ذاتيتها مما يجلّي أخصب طاقاتها الفنية والإبداعية التي كانت تتغشاها أشكال عدّة للوعي المشترك، المنشد إلى جاذبية الايديولوجيا الاجتماعية، التي ترين عليها بسطوة مسالك راهنيتها الثقافية لقد كتب هنري هويسمان في مؤلفه «علم الجمال» (إن ما يقيم الفن معارضا للنشاطات البشرية إنما هي على ما يبدو صفقة «اللاتصورية» ذلك أن الفن الطفولي أو الجنوبي وحتى الساذج، هو في الوقت نفسه فنّ إضافة بقدر ما يتعدى الحقيقة العامية بتسام ضئيل). إنّ الذات المتحرّرة المبدعة، تطرح نظريا فلسفة إبداعها وليس إبداعها سوى صفة حريتها الكينونية الناجزة، التي تقودها وفقا لمقولة كلود لوبورج إلى تكريس «سيادتها الحقة» أي كشف ذاتانيتها تحرريتها التعبيرية والإبداعية، الذات هنا تنزع إلى الانغماس الصميمي في هواجسها، اختلاجاتها إسماع صوتها الباطني بأشكالها المتعددة والمتكاثرة وهكذا فحداثة ذاتية الذات انشقاقية بمقتضى تمحورها الراسخ حول تفردها حداثة الذات تهدف دوما إلى الإبانة عن حقيقتها الخاصة التي تترمّز في مفاهيم ودلالات وأشكال تتعالى عن مسلكيات التنسيق الثقافي والايديولوجي السائدة لأنها من طبيعة اختراقية، لا زمنية في عمق ماهيتها وهذا ما عناه ميشال دوبال في حديثه عن «ميتافيزيقا الذات الفنية المبدعة» هذه الخصال الاختراقية لإبداعية الذات، تحضر رغم ذلك في زمن اجتماعي وتاريخي محددين، تاركة الأثر المبهر الغامض في أفئدة متلقيها لما تحتويه من نضارة وفتوة إبداعية لا مألوفة وفي السياق الإبداعي لمفاهيم الذات الحداثية يتسنى لنا إدراك المعنى العميق لما يهتف به سالفادور دالي حين يقول (يجب دائما خلق اللامألوف، وهذا ما يساهم في تحرّر الإبداع، فكل مخالف ومناقض يعتبر منعا للحياة) أو في قوله (في يوم من الأيام سنضطر للاعتراف رسميا بأن الشيء الذي نسميه حقيقة هو أكثر وهمية من عالم الأحلام). إن الإبداع الفنّي الخاضع لنواميس الذات هو «انكسار»(1) في وتائر الرتابة الثقافية و«مفاجأة»(2) للمتلقي و«دهشة»(3) في وجدانه، هو إبداع يقاوم كل نزعة ارتجالية أو توثيقية اجتماعية أو تشيؤية، «فكل تشيؤنسيان»(4) إن اللحظة الإبداعية للذات هي لحظة «لا علمية» على حد عبارة كلود لوبورج، فكثير من «علميي الإبداع» حاولوا إخضاع الإنتاجات الفنية إلى مبادئ عقلية صارمة فخاب أملهم، إن كل تعريف لنمط الإبداع الحداثي للذات متناقض في حد ذاته، ويكون كانط في التاريخ الفلسفي الحديث رائدا للحداثة في مفهومها الفني والإبداعي عندما أكد على أن المتخيّلة من مهمتها أن توجد العلاقة بين المفهوم وموضوعه في مجال العلم والمعرفة بشكل عام ثم تنتهي مهمتها عند هذا الحد، لكن هذه المهمة تبقى منفتحة في مجال المبدع لأنها لا تتطابق بين مفهومها وما يتعلق به، وهذا ما سماه كانط «مفهوم الروعة» الذي لا يمكن تمثيله لصالح مفهوم معرفي بل ذوقي، وهكذا يكون الإبداع الفني ممارسة ذاتانية في صميمية منشئها وأبعادها، هذه الذاتانية هي نسغ معاناة المبدع الحداثي، يقول الفيلسوف السوري مطاع الصفدي في كتابه «نقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة» (فالوجه المائي تمحوه أقل نسمة على أديم الماء، ونرجسية المبدع ليست حالة تمركز حول الذات لأنه بعد انقضاء زمن الذات، لم يسبق للوجه إلا شفافيته، التي لا تكون ولا تعكس إلا فراغه، لأنه وجه الفرد الذي ليس هو إلا قصبة فارغة، فالتمركز صار تبددا، لأنه لم يعد له محيط البتة، فأمسى مركزا لا مركز له، والإبداعي هو الذي يريد أن يلتقط هذا الذي لا يمكن الاحتياز عليه). ويضيف في موضع آخر من الكتاب (لحظة الحداثة تستطيع أن تقول للفرد إنه هو وحده من يسبق كيانه ومن يمثل كيانه ومن لا يبقى بعده، إن لم يكن ككيان جسدي، فقد يكون فكرته، حتى فكرة الفردية تتحاشاها الحداثة خيفة أن تنقلب إلى إيقونة، لذلك لا ترى للفرد ثمّة فكرة إلا فكرة فرده هو بالذات تولد فكرة فرد = الفرد معه، تموت بموته) وبذلك يتراءى أن أوساع حداثة الذات أكبر من أن تقنّن في نظرية تضيق عن استيعاب دلالاتها في أعمق فرادتها. إنّ الفن هو الهوية الإبداعية للذات، وبذلك يعبّر إبداعيا عن التمظهرات الإبداعية التي لا حصر لها لإمكانات الذات، حتى ليكاد يمكن القول إن الذات في أعمق كينونتها، سرّ فنّي أو أنها في أعمق أسرارها كينونة فنية، إن الفن وفق هذه المقاربة لا يكون موضوعيا البتة، كما لا ينبغي التماس صيغة تعقلية في خطابه لصالح تصنيف نظري من التحديدات المنهجية في خطاب الإبداع. على أنه ليس يفهم من ذلك دعوة ضمنية لتحطيم المقاربات المعقلنة لمنتج الخطاب الفني، وإنما الأمر هو توكيد على أن الاتجاهات الواقعية التقعلية لخطاب الإبداع الفني لا تفعل شيئا سوى أن تنهل في مقارباتها من الجزء الظلي الضئيل من سر هذا الثالوث المزدوج: الحداثة / الذات / الفن... إن الذاتية هي الهوية الأصلية للإبداع، ومن ثمة تتأتى حداثتها الفنية، الينبوعية، السحيقة. كتب جوته في هذا السياق (إن كل نظرية شاحبة أما وجه الحياة فنضر مفعم بالحيوية). الهوامش 1) اللفظة لشارل بودلير 2) اللفظة لغيوم أبولينير 3) اللفظة لسان جون بيرس 4) المقولة مقتطفة من كتاب «جدل العقل» من تأليف ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو