لم يعد الشاعر الليبي خالد درويش بغريب عن المشهد الشعري في تونس من خلال حضوره تظاهرات ثقافية مختلفة ومن خلال نصوصه وهو من الأسماء النشيطة التي تحمل رسالة الجيل الشعري الجديد في ليبيا هذا الشاعر أصدر مؤخرا عملا جديدا عنوانه «أنا من راود التحنان» وهو عنوان يحمل بعدا نفسيا وصوفيا... ينخرط درويش في موجة النصوص الشعرية المعاصرة التي تحاول أن تطمس خطاباتها وتثريها بما توفره الثقافة من أفق للمبدع وذلك في إطار الابتعاد عن الخطاب اليومي وقد خير في هذا العمل أن يلقي بنصه في تخوم بعيدة محاولا الاستفادة من الرموز التراثية والتاريخية لكن مهما ابتعد الشاعر عن الواقع وعن الذات فشعره هو رؤية ما للراهن وهو تجل من تجليات الذات الشاعرة وقد استقرت في ذهني بعد قراءاتي الأولى لهذا العمل ثلاث ملاحظات انطبع بها وهي لا تنفصل عموما عما عرفته عن تجربة خالد درويش الشعرية. 1) يطرق خالد درويش في هذا العمل باب التصوف الشعري فيكثف من مفردات المتصوفة في أغلب القصائد كما يردد بعض مواقفهم وجواهرهم وتحديدا الاحساس بالفناء والتوحد مع المحبوب وهذا ما سنحاول إبرازه من خلال بعض القصائد. أ) طواسين افتتحت المجموعة بهذا النص الملغم بمفردات الصوفية وتوترهم فكان معجمهم حاضرا بكثافة وحضرت مصطلحاتهم التي نسبت إليهم: الطير أنهار الروح الدم الموت الكأس فاض التاع... وحضر التوجع والتألم الصوفي من ذلك قوله: جفت أنهار الروح بكفيه ففاض الحزن المورق والتاع الطين دب الصبح بأنفاس معانيه انكفأت وطغى قلب سدته مساكين ص7 ب) تعالي يا امرأة الروح في هذه القصيدة نهل من مصطلحات الصوفية ومعاجمهم (راح الظلمة روحي شغاف القلب أحداقي أشواقي يشرق شراب فناء...). كما نجد الكثير من المناخات الصوفية ومن أهمها التوحد بالمحبوب والتواصل الروحي معه، تلك الدرجة الرفيعة منا لحب الصوفي التي تتجلى في سطور شعرية كثيرة والتي تقوم على التخلص من الجسد وتحديه باعتباره قيدا ومصدر دنس حسب الثقافة الإسلامية التي تميل إلى الروح مقابل الجسد. «اتحرر من وهم الجسد الملعون واكسر اطراقي» كما يبحث الشاعر عن حالات من الحب العميق هي في النهاية تجليات للحب الصوفي نعثر على هذه الرغبة في قوله: «من تلك تراها تدخلني من تستكشف طرقي من تسبح في عمقي» كما نورد مقطعا آخر يعبر عن هذه الرغبة الصوفية «تشعل هذا الصدر وتموت على عنقي جسدي ومضة نار روحي مشرعة فاخترقي ثمة شيء في هذا الصدر» ص19 2) أما الملاحظة الثانية فتتعلق بميل الشاعر إلى توظيف التراث في نصوصه الشعرية وهو ما سمح بتناص مع القص الديني والتراث الأدبي والشعري فالنص الشعري لدرويش متلبس بالتراث وهو يعيد تشكيل الماضي ويختطف منه بعض الصور الشعرية ليقحمها في السياق اليومي المعاصر وقد حافظ الشاعر على هذا التوجه في مختلف أعماله الصادرة مثل زقزقة الغراب أو بصيص حلق أو أنا الليبي متصل النشيد. وقد استنتج عدد من الكتاب هذه الخصوصية من ذلك ما أورده رامز النويصري «درويش يتخلى عن هذا اليومي قبالة التاريخ العربي متتبعا حوادثه حافظا خطب سلاطينه وأحكام ولاته». فالشاعر يلقي بدلوه في التاريخ العربي المعترف به وفي الأساطير والنصوص القديمة ويغترف لنا بعض ما يوقد الذاكرة ويروي ظمأها هذا الغرام تجدد في هذا العمل الذي بين أيادينا وهو عمل تتخلله إشارات للتاريخ وللنص الديني واستعادة لبعض الرموز. ولكن هذه الصور الشعرية المتصلة بالنص الديني ترتطم بالواقع اليومي وتلتحم به. «المادون حرب واستدار لفافتين من تبغ رديء يا صاحبي السجن ملهاة ومنجاة وبوصلة الرجوع وغارة الدوري فوق أسلاك قريتنا ولم يحصنا الآخرون ونبكي ولا يذهبون فهل نحن باقون يا يوسف الرؤيا بلا تفسير والعزيز على شفا دبابتين..» ص11 ويستدعي الشاعر نصوصا أخرى «لها مرسم في الحانة المغرمة سوار دقيق يعود لتاريخ حوقل الخارجي لها قيمة كشعر الوليد كسيف نبي لها خاتم من جراح معتق وشارع في حي موزارت تسكنه الغابة المظلمة هي مستودع للبلاط وأجرة من خبرة الفاطمي الأخير... ص16 وأما في قصيدة ديار سلمى فالشاعر يتجه إلى الشعر العربي القديم ويستثمره في ثوب حداثي يا دار غيرك البلاء يا دار ماذا خلف ذيلك الطلل وعليك منه بلا وهق وجل... ماذا عليك إذا الرؤى سيف ورمح وافتخار ماذا عليك إذا المباهج كلها كلمى بنار... ص44 لكن هذه النصوص القديمة مسربلة بالحب والغزل والتصوف والألم فثمة من الحب الكثير ومن الكآبة أكثر 3) يخيم على هذا العمل نوع من الكآبة.. والشاعر هنا قد عاج لكآبة الرومنطيقيين وانزعاجهم وتألم ذواتهم من ذلك قوله «أجر دفاتر أيامي بسطور كآبة» ص30 أو «رحل المرفإ والسفن وكل الأحباب والليل عذاب والليل عذاب» ص36 أن الشاعر تأسره حالة الكآبة... وحالة الألم والجراح غادرت مروحة الطقوس بلا دليل وعدت مجروح الاهاب يرمقني الوبيل ان كان شوق العاديات يلفني فإني من مدادك استقيل ص50 ختام هذا العمل أن نص خالد درويش قابل للحفر.. فهو نص ثري يحرص صاحبه على أن يكون متنوع المناخات الشعرية فهو نص التراث والدين والتصوف والرومنطيقية وهو نص الواقع اليومي والذات الشاعرة.