في مقدّمة كتابه «الفوز بالسعادة»، يجرؤ الفيلسوف الإنقليزي برتراند راسل على الزعم بأنّه لم يؤلّف كتابًا صالحًا للقراءة فحسب، ومفيدًا للمهتمّين بالمسائل العلميّة فحسب، بل انّه جاء بوصفْةٍ للتعساء كي يُصبحوا سعداء! وكأنّ على قارئ كتابه أن يفركه مثلما كان بطل الحكاية يفركُ قنديل علاء الدين. لو صحّ هذا الزعم لتغيّر وجه العالم طبعًا، ولأصبح كتاب برتراند راسل يُباع جنْبًا إلى جنْب مع البطاطا. ويحفظه أطفال المدارس عن ظهر قلب قبلَ دروس المحفوظات، ويدفع من أجله العاطلون عن العمل آخر ملاليم في جيوبهم. بل لاعتبرَهُ أُدباء العالم وشعراؤُه دستورًا لهم، هم الذين يوجعهم هذا العالم ويُثخنهم جراحًا، فإذا هم متمزّقون بين ما يحلمون به وما يُحقّقونه، بين ما يكتبونه وما يريدون كتابته، بين ما يفكّرون فيه وما يستطيعون قوله، بين ما يريدونه وما يقدرون عليه. حتى أنّهم كثيرًا ما يتساءلون عن جدوى الكتابة. والحقّ أنّ برتراند راسل نفسه لم يكن سعيدًا بالمعنى الذي دافع عنه في كتابه. صحيحٌ أنّه نجح ولمع وحصل حتى على جائزة نوبل للآداب. إلاّ أنّه لم يشعر يومًا بالسكينة التي دعا إليها. فقد هزّته أحداث بلاده وعصره كما هزّته أحداث سيرته، ويكفي أن نستعرض مراحل حياته العاطفيّة مثلاً، وهي معروفة، كي نرى أنّه خير برهان على صحّة ما ذهب إليه أراغون حين قال: ليس من حبٍّ سعيد. قد يكون عثر على سعادته في ذلك التمزّق. ولعلّ السعادة في النهاية ليست سوى في السعي إلى السعادة. إلاّ إذا كانت على رأي مارسيل أشار: حصيلة كلّ ما لا نعرفه من التعاسة. وهو المعنى الذي قد يكون ذهب إليه أبونا المتنبّي حين قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم. لكلّ سعادتُهُ طبعًا. وأندرُ هذه السعادة ما يعرفه الكُتّاب. فهم مُثخنون بجراحهم وبجراح الآخرين. لا يستطيعون الصمتَ حتى حين يعوزهم الكلام، ولا يستطيعون الكلام حتى حين يجرحهم الصمت. ولا يستطيعون الفراغ إلى سعادتهم الصغيرة بقهوة وورقة بيضاء يحاورون فيها الكلمة أو الفكرة. ولا يستطيعون الإشاحة بوجوههم ومُهَجهم عمّا يحدث في العالم. تقول إحدى الحكايات الطريفة إنّ أحد الباحثين في بداية القرن العشرين جمعَ عددا من الكتّاب وسألهم عن لحظة السعادة التي يحلمون بها في حياتهم. كانوا أربعة: روسيّ وفرنسيّ وأمريكيّ وعربيّ. قال الكاتب الروسيّ إنّه لا يرى في أحلامه لحظةً أسعد من أن يُطرَقَ عليه الباب في الليل ويفتَح فلا يرى فرقة من الكاجيبي! قال الكاتب الفرنسيّ إنّه لا يرى في أحلامه لحظةً أسعدَ من أن يُطْرَقَ عليه الباب في الليل فيُقال له إنّ عمّا له في أمريكا توفّي وترك له ثروة طائلة! قال الكاتب الأمريكيّ إنّه لا يرى في أحلامه لحظةً أسعد من أن يُقال له إنّه كان روسيًّا وأصبح فرنسيًّا! أمّا الكاتب العربيّ فقال إنّ أسعد لحظة في حياته ستكون يوم يُطرق عليه الباب ليلاً فيُقال له: اكتُب ما شئت! وتقول الحكاية: ما أن عبّر الكاتب العربيّ عن حلمه حتى تخلّى الآخرون عن أحلامهم وقالوا: نريد هذا! هذا هو حلم أحلام الكاتب حيثما كان وهذا هو سرّ أقصى ما يحلم به من سعادة. لأنّه يعرف أنّ الكتابة هي أقصى ما يستطيعه لنفسه وللإنسان. وهو إحساس دفين حتى في أعماق الكُتّاب الذين يبدون مُصرّين على الإحساس بالسعادة عن طريق الترفّع عن كلّ المنغّصات التي تكسر مرآة الواقع بوجوهه الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. هؤلاء ينظّرون في الظاهر للفصل بين الفنّ والحياة. ويؤثّمون كلّ من يتدخّل في الشأن العامّ أو يتوجّع لعدم قدرته على التدخّل. ويشكّكون في أدبيّة الكتابة المنشغلة بالشأن العامّ، ويؤكّدون أنّها تخرج بصاحبها من «خوخة» الخلود بينما الأدب الصافي المتعالي وحده يدخلُ الخلود من بابه الكبير! وهو في الحقيقة موقف دفاعيّ ينمّ عن وعي بقيمة الكلام وأحيانًا عن رغبة فيه، لكنّه وعي يصطدم بجدران الواقع الذاتيّ أو الموضوعيّ، فإذا هو يُترجم عن شقائه بطُرقٍ مُختلفة، من بينها الصمت. محاولاً في كلّ لحظة إقناع نفسه وإقناعَنا بتلك الحكاية التي تقول إنّ السعادة فراشة، تهرب ممّن يُطاردها، لكن ما أن يجلس، حتى تحطّ على كتفه.