مثل بهلوان ينسيه تعالي تصفيق «المعجبين» مع تماديه في تسلق الشجرة انه بصعوده يزيد في كشف وتعرية أجزاء يفترض أن يواريها من بدنه، تمضي قناة «الجزيرة» القطرية في توهم صعود سلّم الرسالة الاعلامية غير عابئة بأنها مع صعودها الموهوم تزيد في كشف عورتها أمام العموم. هذا المشهد بات مشهدا مقرفا مسبّبا للتقزّز وهو انطباع يخرج به المشاهد العربي كلما تابع هذه القناة وهي تنهال على بلد وتتوغل وراء وهم «الصعود الاعلامي» متناسية أن الجمهور الواعي سئم مشهد عورتها وبات يصاب بالتقزّز والغثيان وهو يتابع هرطقتها الاعلامية وصعودها الى هاوية الدسّ الأعمى والتحريض المجاني والسعي المحموم الى بثّ ونشر بذور الفتنة داخل المجتمعات العربية.. ولأن تونس بلد منفتح وبلد يبني حاضره ومستقبله بعرق أبنائه وبوفاقهم وباختلافهم وبفرحهم وأيضا بغضبهم.. ولأن تونس بهذا الأداء بنت أنموذجا فريدا للتنمية المعتمدة على الانسان وعلى الاستثمار فيه وفي الرهان على العلم والمعرفة طريقا لاستكمال مسيرة التنمية.. ولأن تونس تقتلع خيراتها من الصخر ومن إبداع وعقول وسواعد أبنائها ولا ترقد على محيطات من النفط والغاز أو مناجم من الذهب والماس، فإنه يصبح عاديا أن تشحّ الموارد وأن يكبّل ضيق ذات اليد الآمال والطموحات.. كما يصبح عاديا أن يحدث تأخير عن الاستجابة لطلبات عشرات الآلاف من خرّيجي الجامعات ومراكز التكوين سنويا.. وعن تلبية حاجيات جهات أو فئات محرومة بالسرعة التي يتطلبها الواقع وتطرحها التطلعات المشروعة.. ولأن تونس تثق بنفسها وتثق بوعي أبنائها وبسعة اطلاعهم وهي التي راهنت على تعليمهم وفرشت لهم طريق الجامعات والمعاهد العليا بمجانية وديمقراطية التعليم معلنة بذلك انحيازها للحل الأصعب المتمثل في التعاطي مع رغبات وطلبات واستحقاقات شعب مثقف ومتعلم على المراهنة الخاسرة على التعاطي مع نخبة النخبة والإحاطة بها وإدارة الظهر للأغلبية الساحقة التي تكون قد حرمت من أنوار العلم وزجّ بها في «نعيم الجهل والجهالة».. لأن تونس بكل هذه المواصفات فهي اختارت عن وعي وعن قناعة الحل الأصعب واختارت النظر الى وجهها في المرآة لتحصين مواطن الجمال والتألق وهي تغطي الجزء الأكبر من الصورة ولإصلاح مواطن الخلل والنشاز وهي تظهر في الجزء الأصغر للصورة.. وللعلم فإن دولا تفوق بلادنا امكانيات وثروات وموارد تتخبط في مشاكل أكبر من مشاكل بلادنا وتعاني من فقر مدقع يدفع الملايين تحت عتبة الفقر ويشرد الملايين ويحرمهم حتى من سقف يأوون إليه.. هذا دون الحديث عن دول أخرى تملك أموال قارون لكنها تتلذّذ ببعثرتها ذات اليمين وذات الشمال.. من هنا فإن تونس لم تقل أبدا إنها أكملت بناء تجربتها التنموية ولم تقل إنها قضت على الفوارق والاختلالات بين الجهات وبين الفئات.. بل هي تقول إن جيوبا للفقر مازالت موجودة وإن كانت النسبة تدحرجت الى حدود 4٪ وتقول إن المنجز تنمويا مازال يعاني من اختلال بين الجهات.. لذلك هي تتجه للفئات الضعيفة وتركز على تصويب البرامج التنموية لجعل الجهات المحرومة تلتحق تنمويا بنظيراتها التي منت عليها الطبيعة بالموقع الجيد وأهلتها لمقادير أحسن. ولو كانت قناة «الجزيرة» تتابع أخبار مسيرة تونس بعدل وبإنصاف لكانت أدركت أن رئيس الدولة حين يطلق شعار «التشغيل أولويتي» عنوانا لحملة انتخابية وعنوانا لفترة رئاسية فإنما ليقينه بأن عشرات الآلاف من أبنائه الذين ضمن لهم مجانية التعليم وديمقراطيته سيدخلون سوق الشغل وسيطالبون بحقهم في الشغل وبحظهم من ثمار التنمية.. ولو دقّقت في أخبار المجالس الوزارية وفي الجلسات الممتازة التي خصصها رئيس الدولة للتنمية بالجهات الداخلية لكانت أدركت أن هذا الشأن هو شأن قار في اهتمامات رئيس الدولة.. ولئن حدث بعض التأخير في إنجاز المشاريع المبرمجة فمردّ ذلك الى شحّ في الموارد أو تعديل في الأولويات أو حتى تقصير لدى بعض الدوائر أو بعض المسؤولين في الجهات.. وكل هذا شأن قابل للنقاش والخوض فيه مشروع.. لكن.. من أين تأتي «الجزيرة» بمثل هذه الموضوعية وبهذه الحيادية وبهذه النزاهة وبهذه الشفافية التي يتطلبها التعاطي مع الشأن التونسي.. وكذا مع الشأن العربي عامة وهي التي يملأ قلوب القائمين عليها الحقد الأعمى على هذا المنوال التونسي الذي يمضي رافضا طأطأة الرأس إلا الى الخالق ويحقق المعجزات رغم كل المصاعب وكل النقائص؟ ومن أين يرى القائمون على «الجزيرة» صورة تونس كما هي بكل تفاصيلها وبكل تعبيراتها.. بكل نقاطها المضيئة وهي الأكثرية كما أسلفنا وبكل نقاطها الرمادية وهي الأقلية ولا يخلو منها مجتمع كما أسلفنا أيضا وهم الذين ينظرون في السواد ويقيّمون في السواد ويطلقون الاحكام السوداء وقد رشقوا عيونهم في الجزء الفارغ من كأس التجربة التنموية لتونس حتى وإن كانت الأغلبية الساحقة من هذه الكأس ملأى بالمكاسب وبالمنجزات التي حققها التونسيون والتونسيات بأدمغتهم وبسواعدهم وبكدهم وبعرقهم؟ لذلك هل نعجب من هؤلاء لو ترصّدوا تونس ولو تصيّدوها؟ وهل نفاجأ لو أنهم هرولوا في محاولة يائسة لإطفاء هذه الشمعة التي تبني نموذجا تنمويا حداثيا في الوطن العربي بكل ما يطرحه البناء والتعصير والتطوير والتحديث من تحديات.. ومن تجاذبات تبقى علامة فعل ودليل حياة؟ وهل نعجب و«مهنيوها» ينساقون وراء مراهقة سياسية تأبى أن تفارقهم ليستهتروا بالرموز وبالحرمات ليصبح الاعلام «الحرّ والنزيه» عندهم تزييفا للحقائق وهتكا للأعراض وتهديدا لأمن واستقرار الأوطان؟ بالتأكيد لا.. لأن من أعمى قلبه وبصره الحقد لن يرى غير السواد ولن يلهث إلا لإذكاء أسبابه ومسبّباته.. لا يهم إن تنكّر لأبسط قواعد «الرأي والرأي الآخر» التي تفترض النظر في جزأي الكأس الفارغ والملآن.. لا يهم ان أخرج صورة من غيابات الأرشيف وسكبها مثل الزيت على النار.. لا يهم إن أعاد سرد تقرير متوتر صاغه شخص موتور أياما وليالي للإيحاء بأن تونس قد تحولت الى خراب.. لا يهم إن ركب قطار الإساءة المجانية ومضى في تشويه الصورة وتغذية نار الفتنة التي تحاول إذكاءها أجندة يعرفها القاصي والداني وتحاول ركوب مطالب اجتماعية مشروعة وتجري الاستجابة لها بنسق يومي حثيث. لا يهم إن نفخ في خبر وعتّم على أخبار أخرى.. لا يهم إن وظّف رأيا أو انطباعا ليوحي بأنه يعبّر عن كل المشهد ويلزم كل التونسيين. هذا دأب قناة «الجزيرة» مع تونس.. وبهذه الأساليب المكشوفة وبهذه النوايا المبيتة والسوداوية المجانية تصرّ على استعراض «عضلاتها الاعلامية» مع بلادنا.. وكذا مع كل دولة عربية يجدّ فيها مستجد غير عابئة بنتائج هذا اللغو وهذا العبث الاعلامي وغير منتبهة الى أبجديات وأسس أخلاقيات المهنة ومعاني الانتماء التي تستوجب الرصانة والتعقل بدل الهرولة الموتورة الى تغذية بذور الفتنة حتى وإن أدى الأمر الى شق الصفوف كما حدث مع العراق ومع لبنان ومع اليمن ومع السودان.. وكأن القائمين على هذه القناة تحالفوا مع البوم الذي لا يستوي حاله إلا على الخراب. أيها القائمون على الجزيرة لقد انكشفت ألاعيبكم وحيلكم وأساليبكم الرخيصة.. وأصبح أداؤكم يحيلنا رأسا على «اجتهاد البهلوان» في تسلّق الشجرة ولا يغرّنكم تصفيق بعض الموتورين في هذا البلد أو ذاك.. فهو تصفيق من قبيل ذلك التصفيق الذي يناله البهلوان وهو يتمادى في كشف عورته! كفى! لقد أصبتمونا بالتقزّز والغثيان.