عاشت ضاحية المروججنوب العاصمة ليلة عصيبة تحت دوي المروحيات وأزيز الرصاص حتى فجر يوم الأحد، حين أفقنا على مظاهر بقايا حرب شوارع، تتكون من حواجز معدنية وخشبية وحجارة ورماد. وعند الصباح، كان الإرهاق قد أخذ مأخذه من «الشباب» الذين باتوا يحرسون بيوت الضاحية وممتلكاتها، بالعصي والهراوات، متحدين رصاص المليشيات التي لا يعرفون عنها سوى علامات بسيطة: يمتطون سيارات معدة للكراء أو يركبون سيارات رباعية الدفع. من وسط العاصمة، قال لنا الكثير من الأصدقاء أن لجان حماية الأحياء تفرض مراقبة صارمة على مداخل الأحياء، وأن الأمر قد يحتاج إلى «خرائط طريق» ومعرفة بأفضل أماكن المرور، لتفادي التعطيل. نحرس أسرتك منذ مساء السبت، تكونت في مداخل ضاحية المروج بأحيائها الستة مجموعات شباب تقل أعمار البعض منهم عن الخمسة عشر عاما. في مدخل المروج الثالث كونوا ثلاثة حواجز لمراقبة السيارات تقوم على التدقيق خصوصا في العربات رباعية الدفع، وذات الصناديق الكبيرة المغلقة، وخصوصا سيارات الكراء. ورغم المشهد الذي يدفع إلى التوجس من التجاوزات، فقد بدا الشبان مهذبين وودودين، وهم يأمروننا بالتوقف وفتح باب الصندوق الخلفي رغم أن سيارتي ليست مصنفة ضمن السيارات المشبوهة. لم تشفع لي بطاقة «صحفي محترف» التي أضعها تحت بلور السيارة، فيما أحاط بنا أربعة شبان في مقتبل العمر مسلحين بالهراوات والسكاكين بشكل يدعو إلى الخوف، وبدا لنا أن أية حركة خاطئة قد تدفعهم إلى اقتراف ما لا تحمد عقباه، لأن الشباب كانوا مجهدين ومتوترين. قال أكبرهم لشيخ بدا عليه الضجر من هذه الإجراءات المعقدة: «أنا أعرفك، وأعرف منزلك، لكن التثبت حسن ولفائدة الجميع، تذكر أننا هكذا نحرس بيتك وأسرتك». اجتزنا ثلاثة حواجز من ذلك النوع في مدخل المروج الثالث قبل أن نجد عدة حواجز أخرى. وعند الخامسة مساء أي وقت بدء حظر التجول، كان العشرات من الشباب يستعدون للسهر بالتنسيق مع وحدات الجيش والأمن بعد أن قيل لهم: «لا تغامروا بأية مواجهة، المطلوب منكم الإعلام بالهاتف عن أي تحرك مشبوه، ثم الانسحاب إلى بيوتكم». أنباء الليل بدأ ليل المروج هادئا باستثناء طلقات نارية بعيدة يبدو أنها آتية من أحياء الكبارية وابن سينا. الكثير من الشباب ظلوا مرابطين في مداخل الأحياء بالعصي والهراوات وأجهزة الهاتف للتواصل مع المجموعات الأخرى في الأحياء المجاورة. تم إطلاق عدة تحذيرات من سيارات مشبوهة تبين سريعا أنها تحذيرات غير جادة. ظل الوضع هادئا حتى أن أحد الحاضرين عاد إلى بيته لجلب القهوة أو الشاي أو أي شيء آخر يساعدنا على اليقظة. انحلت عقد الألسن للحديث عن انطباعاتنا عما نعيشه من لحظات تاريخية. روى لنا أحد الحاضرين وهو يتلوى من الضحك رغم أجواء الخوف كيف أن مجموعة حماية مثلنا في الكبارية أجبرت دورية أمنية من أعوان الشرطة على التوقف وأجبرتهم على تقديم بطاقات هوياتهم المهنية قبل السماح لهم بالمرور. يضيف: «تصور كيف أن المواطن البسيط أصبح يفرض الحواجز ويراقب أعوان الأمن الممتثلين في صمت». اعترف لنا كهل في الأربعين أنه يشعر بالخوف، وأنه لا يرى لنفسه أي أمل في النجاة إذا ما ظهرت المليشيات المسلحة فجأة هناك. قال: «لم أمسك في حياتي سلاحا ولا أعرف السلاح إلا في التلفزة»، لكنه أقر بأنه يتشجع بنا وأنه خائف على أسرته: «لي بنتان صغيرتان وأن المعيل الوحيد لأمي وأبي». صمت لحظات ثم أضاف «لقد فقدت الكثير في هذه الحادثة، أنا أشتغل في متجر معدات منزلية تم نهبه وحرقه بالكامل». عند العاشرة تماما، دوت طلقات نارية قريبة منا، على بعد بعض مئات من الأمتار، تسارعت الأصوات المستغيثة في الليل بشكل يدعو إلى الخوف، تكررت طلقات الأسلحة النارية وبدا أنها في الجزء الأول من المروج الثالث وسمعنا أصواتا قوية وواضحة تشير إلى اتجاه شخص أو أشخاص هاربين في الحي. اتصلنا بأصدقاء لنا في تلك المنطقة فأكدوا لنا أنهم اتصلوا بأرقام الهاتف التي خصصتها السلط للإعلام عن العصابات المسلحة وأن علينا أن نلزم بيوتنا لأننا لسنا مؤهلين للمواجهة، قال أحدهم لنا في الهاتف: «أخلوا المكان للجيش، حتى لا تكونوا هدفا فتزيدون في عدد الضحايا». سريعا ما ملأت المكان مروحية عسكرية مزودة بفوانيس ضخمة ظلت تلاحق الهاربين وتمد رجال الجيش بالمعلومات حول تحرك الهاربين ولم يتوقف إطلاق النار إلا عند منتصف الليل. أما نحن فقد عدنا إلى بيوتنا وظل الكثيرون منا يتتبعون دوي الرصاص في الظلام لأنهم نصحونا في الهاتف بإطفاء النور وتفادي التوقف في الشرفات والنوافذ. وبتنا بليلة عصيبة لا نعرف شيئا عن نتائج ما حدث. الجيش، الجيش اليوم التالي، الأحد 16 مارس، يوم السوق الأسبوعية كان الناس رجالا ونساء يطوفون أنهج الحي بحثا عن الخبز أو أي شيء يؤكل في ضاحية المروج. أدركنا أن المخبزة الوحيدة في الحي قد أغلقت أبوابها هذا اليوم وتركت مئات الناس يهيمون بلا أمل حتى ظهر الحديث عن مخبزة في جهة أخرى بعيدة قرب سوق الجملة. المتجر الوحيد في المروج الثالث عجز عن استيعاب حرفائه الذين يحكمهم الخوف من نفاذ المؤونة، يشترون بلهفة كل شيء. قال لنا أحد العائدين من المخبزة: «الخبز موجود، لكن معدل الانتظار لا يقل عن ثلاث ساعات، هذا إذا لم ينفذ الخبز قبل الوصول». وفي ظل الاطمئنان العام الذي سمح للناس بالخروج إلى الشارع، دوت رصاصة في سماء الحي، التفتنا جميعا إلى مصدرها حيث رأينا جمهرة حول شاحنة عسكرية. «ربي يستر»، قلنا جميعا، متوجهين إلى حيث مصدرها. هنا كانت شاحنة عسكرية تحرس مقر فرع بنك الزيتونة وتمنع المارة من تخريبه. قيل لنا أن أحد الجنود قد أطلق رصاصة تحذير في الهواء لأن جمهور الناس قد اقترب أكثر مما هو مسموح به وجعل يهدد بتحدي الجيش واقتحام البنك. ظهر عقلاء كثيرون فرقوا الجمهور الذي أحس فجأة بجدية وخطورة ما حدث وتقدم شاب من ضابط الصف وقال له: «دعني أقبلك فقط»، فسمح له العسكري بذلك مبتسما ثم أجاب: «نحن هنا لنفرض . «نرجو أن تكون رصاصة تحذير، أن تكون الرصاصة الأخيرة، يا رب».