كان في طليعة الفوج الأول من الصادقيين الذين سيكون لهم شأن كبير في تاريخ النهضة التونسية الحديثة ومن بينهم البشير صفر وخير اللّه بن مصفى ومحمد الأصرم وعلي الورداني والطيب الجلولي ومصطفى دنقزلي وخليل بوحاجب ويونس حجّوج. هذا ما ذكره المؤرخ الراحل حمادي الساحلي في عرضه لحيا المناضل علي بوشوشة (1856 1917) مؤسس جريدة الحاضرة مضيفا أن علي بوشوشة ولد في مدينة بنزرت، وهو ينحدر من عائلة ذات أصل جزائري هاجرت من مدينة جيجل إلى بنزرت منذ عدة أحقاب. وقد بث أبوه المزارع في نفسه منذ نعومة أظفاره حب الأرض، ولم يمض حين من الوقت حتى أظهر الطفل الموهوب استعدادا مبكرا للأشغال الفلاحية التي استمد منها الصلابة، والمثابرة، والتطلع الطبيعي للاستقلال، ثم جاءت مرحلة الانقطاع لحفظ القرآن، وتلقي المبادئ الأولى في العربية والعلوم الاسلامية. *ذكاء واجتهاد ويضيف الأستاذ الساحلي في دراسة عن علي بوشوشة نشرت ضمن أعمال الندوة السنوية التاريخية لمدينة بنزرت (1993 1994): «لما صدر في الرائد الرسمي الإعلان عن فتح الصادقية اختارت السلط علي بوشوشة مع اثنين من أبناء مدينة بنزرت للالتحاق بالمدرسة الجديدة. وقد استرعى من أول وهلة انتباه أساتذته، وأقرانه بما امتاز به من ذكاء وقاد واجتهاد في العمل، وروح مواظبة ومن علامات نجابته واقباله على التعليم ما رواه عنه صديقه المرحوم الصادق الزمرلي في كتابه «أعلام تونسيون» حيث قال: «لقد كان علي بوشوشة حريصا على التفوق على أقرانه المتقدمين عليه في اللغة الفرنسية، فبذل كل ما في وسعه لاستظهار القاموس الفرنسي خفية على ضوء السراج الليلي الذي كان يلقي أنواره الخافتة على أرجاء غرفة النوم التي كانت تؤوي عشرين تلميذا من التلامذة الداخليين». ولما رجع علي بوشوشة بعد استكمال دراسته في لندن إلى تونس عام 1882 أثناء العطلة الصيفية مع بقية رفقائه التابعين للبعثات الأخرى، منعتهم السلطة الفرنسية من مغادرة البلاد، واقترحت عليهم الالتحاق بالوظيفة العمومية نظرا لثقافتهم المزدوجة التي تسمح لهم بأن يكونوا همزة وصل بين مواطنيهم وبين حكومة الحماية. وقد عيّن علي بوشوشة في أول الأمر مترجما بالكتابة العامة، لكن أنفته أبت عليه مواصلة هذا العمل المقيد لحريته، فاستقال من الوظيفة وتفرغ للزراعة التي أظهر ميلا إليها، فعكف على استغلال مزرعته في عين عسكر استغلالا عصريا. *الحاضرة ولعل ما كان يتمتع به من خصال وحماس للنهوض بأمته هو الذي حمل النخبة التونسية على الالتفاف حوله لاصدار أول جريدة اصلاحية غير حكومية بعد جريدة الرائد التونسي التي حولتها السلطة الاستعمارية إلى جريدة رسمية. ومن الأسباب التي ساعدت على صدور هذه الجريدة إلغاء الضمان المالي الذي كان مفروضا على الصحف التونسية منذ عام 1884م، وقد تفرغ علي بوشوشة مدير الجريدة وصاحب امتيازها للاشراف على حظوظها طوال 23 عاما أي من عام 1888م إلى عام 1911 وبهذا الاعتبار يعد أول صحفي تونسي محترف. ورغم اعتدالها السياسي والاجتماعي فقد تعرضت الجريدة لعدة مضايقات، وعراقيل كادت تقضي عليها، وفي عام 1897م أيضا تعرضت للتعطيل لمدة 15 يوما من مناصرتها للخلافة العثمانية. كما قررت السلطة الفرنسية في نفس العام منعها من الدخول إلى الجزائر بسبب مواقفها الوطنية. *الخلدونية وإلى جانب عمله في الحاضرة كان علي بوشوشة من مؤسسي الجمعية الخلدونية وكان علي بوشوشة من أنشط مسيري الجمعية وأشدهم مثابرة. ويدل النشاط الذي كان يقوم به علي بوشوشة في الخلدونية والحاضرة على أنه لم يتخل قط عن المشاركة في الحياة العامة، فبالإضافة إلى مسؤولياته في الخلدونية وعنايته بمزرعته، انضم علي بوشوشة إلى عدد من الجمعيات والنوادي الخاصة مثل الجمعية الخيرية الإسلامية والمدرسة الفلاحية بالأنصارين، كما كان عضوا في الجمعية الجغرافية، وكان أيضا يتردد على النادي التونسي ونادي الأميرة «نازلي فاضل» بمدينة المرسى. *وفاته وقد زار علي بوشوشة تركيا ثلاث مرات متتالية وأثناء زيارته الأولى تزوج بفتاة تركية أنجبت له ابنه مصطفى بوشوشة وابنته علية قرينة العلامة حسن حسني عبد الوهاب. وبعد ذلك بسنوات فقدَ زوجته الأولى فتحول إلى تركيا وعاد بزوجته التركية الثانية، ثم زار تركيا مرة ثالثة صحبة صديقه عبد الجليل الزاوش اثر ثورة 1908 . ولما عاد إلى تونس بدأ علي بوشوشة يحس بآثار الداء الذي كان ينخر جسمه النحيف منذ بضع سنوات، إلا أنه أصر على مخالفة تعليمات الأطباء، وبقي نشيطا كعادته من خلال الاشراف على جريدته العزيزة على قلبه إلى أن أوقفتها حكومة الحماية في نوفمبر 1911 اثر حوادث الزلاج. ولم يعمر علي بوشوشة طويلا بعد تعطيل الحاضرة، إذ التحق بجوار ربه يوم 18 أوت 1917 أي في نفس العام الذي توفي فيه صديقه الحميم البشير صفر.