مقدمة: مدينة بنزرت كغيرها من المدن التونسية لها ذاكرة وأن لذاكرة بنزرت وهج خاص في النفوس باعتبارها تستوعب بطولات ومواقف رجالاتها الابرار الذين عاشوا ضمن سياقاتها التاريخية وجعلت منهم أنموذجا للتحدي وعنوانا للاصرار ولأشكال الحياة في صياغاتها المتجددة. وسنتطرق في هذا العدد الى شخصية تركت بصمتها وكان لها فضل كبير واسهامات ي نحت الملامح الاجتماعية بنزرت طيلة الحقبة التي عاشها. هذه الشخصية هي علي بوشوشة (1859 1917م) المولود بمدينة بنزرت والذي ينحدر من عائلة فلاحية تملك مئات الهكتارات من الأراضي الخصبة في منطقتي بنزرت وعين عسكر.. تعلم من والديه حب الأرض فنشأ شغوفا بها ميالا الى الحياة الريفية بعد تعلمه بأحد الكتاتيب ببنزرت واصل تعلمه بجامع الزيتونة ثم بالصادقية ليتزود من البرامج التثقيفية التي سعى خير الدين باشا لادخالها ضمن مواد الدراسة في ذلك العهد ثم بأوروبا (بريطانيا) ليستكمل هناك بقية معارفه وذلك من 1879 الى 1881. لقد كان علي بوشوشة يمثل الحماس المتناهي والثورة المتقدمة على الوضع السيئ الذي كانت تونس تعيشه قبل الاحتلال وبعده.. لقد كان شديد التعلق بالمصلح خير الدين باشا وأفكاره ومتناهي الاعجاب بمواقفه ومبادئه الاصلاحية، ولقد كان عظيم الحسرة على توقف سير تلك الحركة الاصلاحية لخير الدين باشا التي حاصرتها وخنقتها الدسائس والمؤامرات في فترة عمّ فيها النفاق والرعب وامتلأت بالرجعيين والمتزلفين. عودة الى تونس وخيبة أمل بعد ثلاث سنوات قضاها ببريطانيا تعلم فيها اللغة الانقليزية وحذق أدبها وتعرف على حضارتها الى جانب اللغات الأخرى التي حذقها بتونس.. عاد الى تونس سنة 1881م وكان يحمل آمالا وأفكارا يمنّي النفس لو تعرف طريقها الى حيّز التنفيذ. لقد كان في عزمه أن يؤسس بمعية زملائه، الذين تعلموا بالصادقية وأنهوا دراستهم بالخارج طريقة مشتركة يضعون بها حدا لمظالم البايات وكان يعتقد وزملاءه الجدد المتشبعين بأفكار خير الدين باشا أن يحملوا الدولة العثمانية على دفع خطر الاستعمار المتوقع من طرف فرنسا وايطاليا..ولكن الدولة العثمانية نفسها وجدها هزيلة ومحتاجة الى من يشد أزرها. ومرّت الأيام القليلة على عودته الى تونس ويصاب بخيبة أمل مزدوجة: دولة عثمانية ضعيفة واحتلال فرنسي للبلاد التونسية يوم 12 ماي 1881، فأثر ذلك في نفسه كثيرا بل وفزع من الهول الكارثة وكرد فعل أولى فضل عدم مباشرته للوظيفة المعينة له وخير مباشرة العمل الفلاحي مع أفراد عائلته ببنزرت وبقي ينتظر الفرصة لكي يطبق آراءه التي آمن بها منذ فجر شبابه. الرائد الرسمي التونسي وجريدة «الحاضرة» الحاضن الأول لأفكاره وجاءت الفرصة التي كان ينتظرها المفكر والمصلح علي بوشوشة وذلك حين تكونت كتلة «جال النهضة التونسية» وذلك بانضمام النخبة المتخرجة من الصادقية الى النخبة الزيتونية والتي ارتفع صوتها عاليا عن طريق جريدة الرائد الرسمي التونسي للشيخ محمد السنوسي (1849 1900م) لقد وقفت هذه النخبة في كتلة موحدة وضمت مختلف مشارب الشباب المثقف التونسي جاعلة من أكبر أهدافها الوقوف في وجه التيار الاستعماري. وحتى يكون للعمل لهذه النخبة حظا أوفر في تشييع أفكارها وتجميع أهل الفكر حولها بمختلف مشاربهم كان الفضل للمفكر والمصلح علي بوشوشة في تأسيس جريدة «الحاضرة» وهي أول جريدة عربية غير رسمية ظهرت بتونس وبرز أول عدد منها يوم 2 أوت 1888 واستمرت في الصدور لمدى 27 سنة أي الى موفى سنة 1915 حيث تعطلت أثناء الحرب العالمية الأولى. وإلى جانب الأسماء النيرة انضمت إلى الحاضرة نخبة جديدة أمثال محمد بلخوجة وعلي الورداني ومحمد الجنادي ومحمد لاصرم وغيرهم.. واعطاء لكل ذي حق حقه يعدّ علي بوشوشة من مشاهير الصحافيين التونسيين في القرن الماضي حيث انسلخ عن وظيفته وترك فلاحته لينغمس في الحياة باحثا عن العلل التي نخرت مجتمعنا، منيرا الأجيال نحو الطريق الموصل للهدف والمحقق للغايات.. لقد جعل من جريدة «الحاضرة» منبرا تتبارى فيه الأقلام.. علي بوشوشة ونشاطه الاجتماعي استمر نشاطه علي بوشوشة في ميادين أخرى من ذلك الميدان الاجتماعي حيث ساهم مساهمة فعالة في نشاط ال«الخلدونية» اثر تأسيسها عام 1896 كما كان يتردد على الكثير من النوادي الفكرية والسياسية التي تأسست بتونس وعلى الأخص «نادي الأميرة نازلي» الذي كانت تؤمه نخبة الرعيل التونسي العامل في حركة الاصلاح مثل سالم بوحاجب ومحمد التركي والبشير صفر ومحمد باش حامبة وغيرهم.. وفي هذا النادي تعرف علي بوشوشة على الكثير من المستشرفين ورجال الفكر العرب لعلّ أهمهم مفتي مصر الأول آنذاك الشيخ محمد عبده وبعد عودته إلى تونس اثر رحلة إلى الشرق صحبة زميله عبد الجليل الزاوش، اغتنم الفرصة خلالها وزار المكتبات الاسلامية العمومية والخاصة واطلع على الكثير من المتاحف والمعالم الثقافية هناك، اثر هذه العودة بدأ يحس بالألم وعلى الرغم من نصائح الأطباء والأصدقاء لكي يحد من نشاطه فإنه واصل جهوده في سبيل قضايا وطنه إلى أن أنهكه المرض فتوفي سنة 1917م. هكذا هي حياة شخصيتنا علي بوشوشة التي قضاها كفاحا مستمرا على أكثر من صعيد من أجل تحقيق أحلام تونس. إعداد: الأمين الشابي ومحمد الهادي البكوري المراجع: اعلام تونسوبنزرت تحكي لرشيد الذوادي بنزرت عبر التاريخ (جمعية صيانة المدينةببنزرت) كتيب خاص بالذكرى 43 لتأسيس النهضة التمثيلية